إضاءات تدبریة

رد الصاع صاعين!

إذا أُسيء الى أحدنا.. ماذا نفعل؟

إذا سبَّك شخص من غير حق إذا سدّ عليك الطريق وأنت تقود سيارتك أو دراجتك، إذا تصرَّف جارك بطريقة أزعجتك، وإذا سافر أخوك ولم يخبرك قبل ذلك واعتبرتها إساءةً لك، وإذا أهدى زميلك في العمل هدية لأحد الزملاء بمناسبة عيد ميلاده، ولكنه تجاهلك في عيد ميلادك. إذا .. إذا.

الإساءات كثيرة ومتنوّعة، وتختلف آثارها النفسية السلبية باختلاف الأشخاص والأوقات والظروف، والإمكنة، ولكن – في كل الأحوال – الإساءة إساءة، وهي مرفوضة بكل اشكالها في المنظومة الأخلاقية الدينية.

فالدين يشجع على تبادل الإحسان، ويهيب بالمحسنين، بل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

الدين يريد مجتمعاً يتسابق فيه أبناؤه على الإحسان لبعضهم البعض؛ أما الإساءة فهي تصرف مبغوض، يبغضها الله، وكل رسله، واوليائه، بل ويبغضها كل ذي عقل سليم، لأنَّ الإساءة خروج عن حدود الأخلاق الفاضلة واقتراب الى شريعة الغاب.

في الحقيقة ليس هذا هو أصل حديثي، بل كانت هذه مقدمة لكي أطرح هذا السؤال على نفسي وعلى القارئ الكريم:

ما هو رد فعلي ورد فعلك بازاء الإساءة الينا؟

– البعض يكنّها في قلبها فتتحول الى نقطة سوداء تدفعه لرد الإساءة بالاساءة، وربما يتذرع بالآية الكريم: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}.

– وهناك البعض الذي يتبنّى شعار (رد الصاع صاعين) أي لا يكتفي برد الاساءة مثلها، بل بضعفيها أو حتى بأضعافها، ويبرر ذلك بأنه يريد أن يلقِّن الطرف المقابل درساً لن ينساه أبداً، وهكذا يمتلئ قلبه حقداً وكراهية وشوقاً عارماً للانتقام.

– وهناك من يتفنَّن في الرد لكي يجعل رده على الاساءة مؤلماً للطرف المقابل أكثر مما تألّم هو بإساءته.

– وهناك أيضاً – من يتجاهل الأمر، ولا يدخله في حساباته، ويحاول نسيان الإساءة وعدم ترتيب الأثر عليه وكأنها لم تكن.

وهكذا تتنوَّع المواقف من الاساءة.

فما هو المعقول؟

وما هو الأفضل؟

ألستَ معي أنَّ علينا الرجوع في مثل هذه الامور الحسّاسة والمتنوّعة الآثار والملابسات الى من هو أعقل منا جميعاً ومورد وثوقنا واعتمادنا جميعاً؟

لنرجع الى القرآن كتاب ربنا الحكيم الذي انزله لذوي الألباب.

يقول القرآن الكريم في الجواب على هذا التساؤل بكل وضوح وصراحة وشفافية: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}.

الآية الكريمة لا تؤيد رد الاساءة بالاساءة، ولا رد الصاع صاعين، ولا الانتقام الأسود، ولا حتى التجاهل، بل ترفعنا الى درجات عالية من السمو الأخلاقي، والتعامل الانساني الرفيع الذي يجعل الانسان الأرضي الترابي في مصاف الاولياء الربانيّين، النهج القرآني هو: رد الإساءة بالاحسان: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}، ليس بالإحسان فقط بل بالتي هي أحسن.

عجيب هذا السمو الأخلاقي الذي يريده القرآن الكريم لنا، ليس فقط أن تعفو عن السيئة وتتجاهلها، بل تردها بالتي هي أحسن.. لماذا؟

1- لأنَّ لهذا النوع من دفع الاساءة آثاراً نفسية ايجابية على الشخص نفسه أولاً، ثم على الطرف المسيء، ثم على المجتمع؛ إذ أنَّ عبق الإحسان والتعامل الأخلاقي الطيب يريح النفوس، ويجعل الانسان نفسه يشعر بالارتياح من تصرفه، وأنه – بذلك – أصبح أرفع درجة من المسيء اليه، كما يجعل المسيء يندم على فعلته، ويتلقى درساً ايجابيا في تغيير اسلوب تعامله مع الآخرين.

2- لأنّ الاساءة والرد عليها بالمثل أو برد الصاع صاعين تتحول الى مشكلة في العلاقات بين الطرفين، أما الرد بالاحسان فانه يمنع من بروز هذه المشكلة، وإذا كانت قد برزت فإن الرد الاحساني يحلها ويرطب العلاقة بين الطرفين، ويعيد المياه الى مجاريها.

3- لأن الرد الإحساني تجعل العلاقة بين الطرفين تتسم بالمودة والثقة بدل الحقد والكراهية والتباعد، وبالتالي تتحول (الإساءة) التي كانت تصرفاً سلبياً ممقوتاً من عامل هدم وتوتير للعلاقة، الى عامل بنّاء بسبب الرد الإحساني.

4- لأنّ الجو الاجتماعي يصبح جواً مفعماً بالايجابية والتحابب والتقارب بسبب (الردود الاحسانية)، وبالتالي تقل درجات التوتر، وتسود المجتمع حالة الوئام والمودة.

وهذا هو مطلوب الباري عز وجل من المجتمعات الايمانية، بينما في المقابل نلاحظ دور الشيطان الذي يعمل على توجيه العلاقات الاجتماعية نحو التباغض، والتباعد،  والكراهية والتنافر، ولذلك نلاحظ أن الآية التي تأتي بعد آية الدعوة الى دفع الاساءة بالاحسان، تشير بوضوح الى هذا الدور الشيطاني الخبيث، إذ تقول: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}[1].

فالشيطان لا يرتاح لدفع السيئة بالتي هي أحسن، بل يوحي لنا برد الإساءة بالإساءة، بل برد الصاع صاعين، وبكل تصرف يعقّد العلاقات الاجتماعية، وينشر السلب والحقد والنفور بين الناس، لذلك عند الإساءة لنا ينبغي أن نستعيذ بالله من {هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}، وهمزات الشياطين ليست هي إلا في اتجاه السلب، والشر، والهدم والتخريب، في كل المجالات ومن أهمها العلاقات الاجتماعية.

لأنَّ العلاقات الاجتماعية الحميحة والايجابية تشكل أحد الأسس الرئيسية للبناء والتقدم، وهذا ما لا يريده الشياطين، ولا فرق بين شياطين الجن أو شياطين الانس، لذلك علينا أن نستعيذ بالله حتى من شياطين الانس الذين يثيرون في الناس عوامل الكراهية، والنفور، والتباغض، وأن نطيع ربنا القائل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ۚ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} فالله يعلم بما يصفه المسيئون وبالتالي لهم جزاؤهم المناسب في الحياة الأخرى.

—————————————-

[1] – سورة المؤمنون، الاية 97.

عن المؤلف

الشيخ صاحب الصادق

اترك تعليقا