مكارم الأخلاق

تأملات في دعاء مكارم الأخلاق (2) بماذا يجب أن ننشغل؟

يقول الإمام زين العابدين، عليه السلام: “اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاكْفِنِي مَا يَشْغَلُنِي الاهْتِمَامُ بِهِ، وَاسْتَعْمِلْنِي بِمَا تَسْأَلُنِي غَداً عَنْهُ، وَاسْتَفْرِغْ أَيَّامِي فِيمَا خَلَقْتَنِي لَهُ”.

من مزايا أدعية الإمام السجاد، عليه السلام، هي استعمال الصلوات، ففي هذا الدعاء ـ دعاء مكارم الأخلاق ـ يبدأ الإمام، عليه السلام، كل فقرة بالصلاة على محمد وآل محمد، وهو بدأ أيضا به الدعاء نفسه، لكن في سائر الأدعية للإمام زين العابدين تكون الصلاة على النبي وآله، في بداية الدعاء ونهايته وأحيانا تكون في وسطه. وإذا لاحظنا أدعية ومناجاة الإمام السجاد، عليه السلام، نجد أن لكل دعاء ومناجاة صلاة تختلف عن غيره.

ومن الأمور المهمة التي أكد عليها أهل البيت، عليهم السلام، وعلمونا عليها هو: أن الدعاء محجوب ما لم يصل العبد على محمد وآل محمد.

 

وَاسْتَعْمِلْنِي بِمَا تَسْأَلُنِي غَداً عَنْهُ؛ إذا تفرغ الإنسان من الاهتمامات التافهة والزائلة والثانوية، فسيكون شغله لله، وفيما سيسأله ـ الله تعالى ـ غدا عنه

 

ولذلك ورد في الروايات إذا أراد العبد ان يُستجاب دعاؤه، فليبدأ وليتخم الدعاء: بالصلاة على محمد وآل محمد، لان الصلوات دعاء مستجاب، فحاشا الله ان يستجيب أول الدعاء وآخره، ولا يستجب لوسطه.

يقول الإمام زين العابدين، عليه السلام: “وَاكْفِنِي مَا يَشْغَلُنِي الاهْتِمَامُ بِهِ”، وهنا لا بد من لفتة مهمة وهي: أن الإنسان كلما تقدّم في الحياة، كلما زادت ارتباطاته، وإذا نظرنا الى بداية حياة الإنسان، ففي بداية حياته كان شابّا، ثم يتزوج، بعدها يصبح أباً، بعدها تتوسع علاقاته الإجتماعية، وبالتالي تكثر انشغلاته، وهكذا تزداد ولا تقل وهذه طبيعة الدنيا.

يقول أحد اساتذة الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة، وقد تقدم في العمر كثيرا: أنا إذا كان عندي شيء من العلم اليوم، إنما حصلتُ عليه في أيام شبابي، لكن ليس بالدراسة، وإنما بالدموع والبكاء من خشية الله في صلاة الليل؛ ثم يضيف ـ وهو يتحسر ـ : أن كل تلك الدموع وذلك الخشوع افتقدته اليوم وقد تقدمت في العُمر، والآن أنا مشغول بالدنيا، فتلك الحالات التي كانت أيام شبابي قد افتقدتها، وانا انصحكم ـ الاستاذ يخاطب تلاميذه الشباب ـ : أن تستغلوا اوقاتكم، فأنتم لا زلتم في مقتبل العمر، وكلما استطعتم أن تستثروا اوقاتكم فيما ينفعكم فافعلوا.

وتلك هي حقيقة الدنيا؛ التي هي: مجموعة من الانشغالات المختلفة التي تُحيط بالإنسان، لذلك الإمام السجاد، عليه السلام يقول: وَاكْفِنِي مَا يَشْغَلُنِي الاهْتِمَامُ بِهِ، وهذا الفقرة تتضمن أن : يا ربي لا تشغلني عن عبادتك، وعن الإهتمام بالقضايا الأساسية في الحياة، عن اكتساب الصالحات والحسنات وغيرها من الأعمال التي لله فيها ر ضى.

اليوم يعاني البعض من الانشغالات الثانوية، فحين تسأل شخصا اين هي مسؤوليتك؟ يقول: أنا مشغول، وليس لديّ وقت كافي!

يقول سماحة السيد هادي المدرسي، حفظه الله: كلّفت أحد الأشخاص بعمل ما.

فقال ذلك الشخص: ليس لديّ وقت.

 

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، و [عن] شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن حبنا أهل البيت”

 

فقال السيد هادي: أنا في اليوم الواحد اقرأ ما يقارب المئة وخمسين صفحة، وأكتب سبعين الى ثمانين صفحة، وألقي بعض المحاضرات، وأحيانا يبقى وقت زائد عندي، فأنت ـ وهو يخاطب ذلك الشخص ـ ما هي الأعمال التي تقوم بها حتى لا يكون لديك الوقت الكافي؟!

“وَاسْتَعْمِلْنِي بِمَا تَسْأَلُنِي غَداً عَنْهُ؛ إذا تفرغ الإنسان من الاهتمامات التافهة والزائلة والثانوية، فسيكون شغله لله، وفيما سيسأله ـ الله تعالى ـ غدا عنه.

رأى بعض الصحابة ابا ذر الغفاري وقد طال شعر رأسه، ومحاسنه ليس بتلك الهيأة المعتادة، فقالوا له: اذهب وقص شعرك!

فقال لهم: أنا مشغول!

فقالوا: بماذا مشغول؟

فقال ـ ضوان الله عليه ـ: شغلتني العظيمتين( الجنة والنار).

فعن ماذا يسألنا الرب غدا؟

يروي حنانُ بنُ سَدير عن أبيه يقول:

“كنتُ عِنْدَ جعْفر بن مُحمَّد الصَّادق”عليهِ السَّلام”فقدَّم إلينا طَعَاماً، فأكلتُ طَعاماً ما أكلتُ طَعاماً مِثْله قط ، فقال لي:

ياسَدير كيف رأيتَ طعامنا هذا ؟ قلتُ بأبي أنتَ وأمّي يابنَ رسولِ اللهِ ما أكلتُ مثلهُ قطّ، ولا أظنّ أنّي آكلُ أبداً مثله، ثُمَّ إنَّ عينيَّ تغرغرتْ فبكيت، فقـال:

ياسَدير مايبكيكَ؟

قلتُ: يابنَ رسولِ الله ذكرتُ آيةً في كتابِ اللهِ.

قـال: وما هي؟

قلتُ: قول الله في كتابه: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.

فخِفْتُ أن يكونَ هذا الطَّعام الَّذي يسألُنا اللهُ عنهُ، فضحِكَ حتَّى بدَتْ نواجدهُ، ثُمَّ قال :

ياسَدير لاتسألْ عن طعامٍ طيّب، ولاثوبٍ لين، ولا رائحةٍ طيبة، بل لنا خُلِقَ ولهُ خُلِقْنا، ولنعْمَلْ فيهِ بالطاعة، فقلتُ لهُ:

بأبي أنتَ وأمي يابنَ رسولِ الله فما النَّعيم؟

قـال لي: حُبُّ أمير المُؤمنينَ عليّ بنُ أبي طالبٍ وعِترتهُ، عليهم السَّلام، يسألهم اللهُ يومَ القِيامة كيف كانَ شُكْركم لي حِين أنعمتُ عليكم بحُبّ عليّ وعترته”.

وعن عبد الله بن نجيح اليماني، قال: قلت لأبي عبد الله، عليه السلام: ما معنى قوله عز وجل: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}؟

قال، عليه السلام: “النعيم الذي أنعم الله به عليكم من ولايتنا، وحب محمد وآل محمد، صلوات الله عليهم”.

إن السؤال الذي سنسأل عنه غداً في القبر؛ هو عن العقائد: مَن ربك؛ من نبيك؛ من إمامك..، وأما الذي نسأل عنه يوم القيامة، فهو ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، و [عن] شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن حبنا أهل البيت”.

عن المؤلف

السيد مرتضى المدرّسي

اترك تعليقا