مناسبات

شهر رمضان منطلق التغيير

خلالها سنة كاملة إلا شهراً واحداً، ينشغل الإنسان إما بالدراسة او الكسب او غيرها من الأمور الحياتية، والتي لا يجد خلال تلك الفرصة السانحة للإلتفات الى الجانب الروحي، كون الإهتمام بالجانب الجسدي هو المسيطر على ذلك.

ومع تلك الانشغالات الكثيرة التي تتوجه الى الاهتمام بهذا الجانب ـ الجسدي ـ فيما الجانب الروحي شبه مبعد تماما عن اهتمامتنا، إلا النزر القليل الذي لا يفي بحاجاته ومتطلباته، لأن حاجات الروح واشبعاته أكثر من أي جانب آخر، لأن الجوانب الأخرى محدودة بأطر معينة من الحاجات، بينما الروح والنفس فإنها واسعة، فكلما رُدمت فجوة من ثغراتها، ظهرت أخرى وهكذا، وبالطبع فإن هذه هي سنّة الله تعالى، التي ارادها ليتكامل الإنسان من خلالها.

وبنظرة عامة الى حال مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وما تعانيه من آلام ومشاكل في مختلف الجوانب الإجتماعية، ما هو إلا نتيجة تغلب الجانب المادي في الحياة على الجانب الروحي، ولذا نسمع تارة: امرأة ترمي بطفليها في أحد الأنهار ببغداد، ورجل يُقدم على حرق أطفاله الذي لم يبلغوا سن الحلم، وغيرها من المآسي التي لا يكاد يوم يمر إلا ونسمع بمصيبة هناك وجريمة هناك.

 

  • شهر رمضان وخطوة العودة الى الذات

شَنّف الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله، كلامه في خطبته ـ المشهورة ـ في استقبال شهر رمضان إذ قال: “أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللَّهِ بِالْبَرَكَةِ وَ الرَّحْمَةِ وَ الْمَغْفِرَةِ، شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَ أَيَّامُهُ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَ لَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَ سَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ..، بهذه الكلمات النوريّة يبين لنا رسول الله، أهمية هذا الشهر، وما يحمله من عطاء روحي غير محدود.

جميعنا يلمس هذه الحالة الروحية العجيبة التي تنتابه خلال هذا الشهر المبارك، فنفسه وروحه مستعدة للتغيير عما دأبت عليه خلال بقية أشهر السنة، وإذا كان هذا الشهر هو شهر استعادة الذات والنفس، وارجاعها الى الحضيرة الربانية، فلا بد للإنسان المؤمن برنامج واضح يسير عليه، ولو بنسبة 50% طيلة أيام هذا الشهر الفضيل.

 

إن سر العبادات الإسلامية وجوهرها هي تزكية النفس من الأدران والمعاصي، ولا يوجد فرصة مواتية من جميع النواحي لهذا العمل كشهر رمضان المبارك، فأبواب الرحمة تتفتح، والنفس البشرية ترنو الى خالقها، والشياطين مكبلة.. فما عسانا أن نخرج من هذا الشهر؟

 

ولما كانت رسالة الإسلام هي تزكية النفس، حيث يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، فإن التزكية لا تستحصل إلا من خلال برنامج عبادي وروحي كالآتي:

  • التوبة الى تعالى: مَن مّنا لم يذنب طيلة ايام السنة عدا شهر رمضان؟ فنحن بشر معرضون للأخطاء والزلّات، في قبال ذلك فإن الله تعالى لم يغلق أبواب رحمته أمام العبد المذنب، يقول الإمام زين العابدين في مناجاة التائبين: “إلهي أنتَ الَّذي فَتَحتَ لِعِبادِكَ باباً إلى عَفوِكَ سَمَّيتَهُ التَّوبَةَ فَقُلتَ توبوا إلى اللهِ تَوبَةً نَصوحاً فما عُذرُ مَن أغفَلَ دُخولَ البابِ بَعدَ فَتحِهِ، فإعلان التوبة بداية الرجوع الى الله، وأول طريق في خط الاستقامة، وشهر رمضان فرصة ثمينة لتوبة العبد ونزوعه الى الباري جل وعلا.

عن الإمام الصادق، عليه السلام: “أوحى الله عز وجل إلى داود النبي على نبينا وآله وعليه السلام: يا داود، إن عبدي المؤمن إذا أذنب ذنبا ثم رجع وتاب من ذلك الذنب واستحيى مني عند ذكره غفرت له، وأنسيته الحفظة وأبدلته الحسنة، ولا أبالي وأنا أرحم الراحمين”. (ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ١ – الصفحة ٣٤٥).

 

  • المحافظة على الصلاة في أول وقتها: فيما عدا شهر رمضان قد نتأخر عن الصلاة لأمر من الأمور التي قد لا يرجى منه نفع، وتأخر أداء الصلاة عن اول وقتها، يسلب العمل ـ أي عمل ـ البركة.

يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ  الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، يقول الإمام علي، عليه السلام: “ليس عمل أحب إلى الله عز وجل من الصلاة، فلا يشغلنكم عن أوقاتها شئ من أمور الدنيا، فإن الله عز وجل ذم أقواما فقال: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}، يعني أنهم غافلون استهانوا بأوقاتها”.

وقال الإمام الباقر، عليه السلام: “إعلم أن أول الوقت أبدا أفضل، فعجل بالخير ما استطعت، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل ما داوم العبد عليه وإن قلَّ”. وشهر رمضان أفضل ساحة لتعويد النفس على أداء الصلاة في أول وقتها.

 

  • الدعاء معراج الروح: من أبرز الأعمال العبادية في شهر رمضان الكريم، هو الدعاء، يقول الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، في خطبة استقبال هذا الشهر: “وَ ارْفَعُوا إِلَيْهِ أَيْدِيَكُمْ بِالدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتِ صَلَاتِكُمْ ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ السَّاعَاتِ يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ فِيهَا بِالرَّحْمَةِ إِلَى عِبَادِهِ ، يُجِيبُهُمْ إِذَا نَاجَوْهُ ، وَ يُلَبِّيهِمْ إِذَا نَادَوْهُ ، وَ يُعْطِيهِمْ إِذَا سَأَلُوهُ ، وَ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِذَا دَعَوْهُ.

وما أحوجنا في هذه المرحلة الى التضرع الى الله تعالى بالدعاء، في وقت يعاني فيه العالم أجمع من وباء كورونا الذي طالت آثاره جميع مفاصل الحياة.

 

  • الاهتمام بالمستحبات: كثيرة هي الأعمال المستحبة التي يضاعف فيها الأجر والثواب، وخصوصا النوافل، فعنه، صلى الله عليه وآله – لما أسري به -: يا رب ما حال المؤمن عندك؟

قال: يا محمد ما يتقرب إلي عبد من عبادي بشئ أحب إلي مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت إذا سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته.

وكثيرة هي الأعمال المستحبة من قبيل قراءة القرآن الكريم، والتدبر في آياته الكريمة، والصدقة، وصلة الأرحام وما اشبه.

أيام ويحل علينا شهر رمضان المبارك، وإذا لم نستثمره فإنه سيغادر كغيره من الأشهر التي فاتت في الأعوام الماضي دون أي فائدة تذكر.

عن المؤلف

أبو طالب اليماني

اترك تعليقا