-
مقدمة في الحب
قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “حب الله نار لا يمرُّ على شيء إلا احترق، ونور الله لا يطلع على شيء إلا أضاء، وسحاب الله ما يظهر من تحته شيء إلا غطاه، وريح الله ما تهب في شيء إلا حركته، وماء الله يَحيى به كل شيء، وأرض الله ينبت منها كل شيء، فمَنْ أحب الله أعطاه كل شيء من المال والملك”.
وقال إمامنا الصادق “عليه السلام: “حب الله إذا أضاء على سر عبد أخلاه عن كل شاغل وكل ذكر سوى الله عند ظلمة، والمحب أخلص الناس سر الله، وأصدقهم قولاً، وأوفاهم عهداً، وأزكاهم عملاً، وأصفاهم ذكراً، وأعبدهم نفساً تتباهى الملائكة عند مناجاته وتفتخر برؤيته، وبه يعمر الله تعالى بلاده، وبكرامته يُكرم عباده، يُعطيهم إذا سألوه بحقه، ويدفع عنهم البلايا برحمته، فلو علم الخلق ما محله عند الله ومنزلته لديه ما تقربوا إلى الله إلا بتراب قدميه”.
وقال الحبيب الأكرم، صلى الله عليه وآله: “إذا أحب الله عبداً من أمتي قذف في قلوب أصفيائه وأرواح ملائكته وسكان عرشه محبته ليحبوه فذلك المحب حقاً، طوبى له ثم طوبى له، وله عند الله شفاعة يوم القيامة“. (بحار الأنوار: ج 67 ص24).
فالحب هو الناموس، وهو الدِّين كله، فعن بُريد بن معاوية العجلي قال: كنتُ عند أبي جعفر، عليه السلام، إذ دخل عليه قادم من خراسان ماشياً فأخرج رجليه وقد تفلقتا وقال: أما والله ما جاء بي من حيث جئت إلا حبكم أهل البيت، فقال أبو جعفر، عليه السلام: “والله لو أحبنا حجر حشره الله معنا، وهل الدِّين إلا الحب؟ إن الله يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وقال: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} وهل الدِّين إلا الحب“.
-
الفرع الاصيل
هو فرع أصيل من تلك الدَّوحة النورانية المباركة التي أصلها في أبينا إبراهيم الخليل، عليه السلام، حيث كان الكلمة الطيبة، والشجرة الطيبة التي وصفها ربنا سبحانه بقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}. (إبراهيم: 25)، فكان الإمام الرابع من أئمة المسلمين علي بن الحسين، عليه السلام، أُكُلها في ذاك العصر الذي كان فيه عثرة كُبرى للأمة الإسلامية بل للإنسانية إذ وصل لحكمها مثل “يزيد بن ميسون” الذي ارتكب أبشع وأشنع جريمة في التاريخ على أرض العزة والكرامة كربلاء التي تقدَّست بتلك الدماء الطاهرة الزكية التي سُفكت وسُفحت على ترابها الطاهر.
بما أن الإمام الرابع زين العابدين، وسيد الساجدين، فكان مخُّ دعوته ورسالته في الأمة هي الدعاء، واتَّخذ منهجاً راقياً جداً لم يسبقه إليه أحد من الخلق ولن يلحقه به أحد من بعد
والإمام علي بن الحسين، عليه السلام، شهدها بكل لحظاتها ودقائقها منذ أن انطلقت من مدينة جده المنورة حتى عاد إليها بعد رحلة لم يشهد لها التاريخ البشري مثلها من مآسي، وكوارث، تحدث لمثله في مقامه مكانته وعظمته وأصله وهديه ونوره وعلمه وجماله وكماله، لأنه خرج من المدينة المنورة بكوكبة كنجوم الأرض لأهل السماء، ولكنه عاد وقد انكسفت وانخسفت كل تلك النجوم وخمدت أنوارها أمام عينيه لا سيما والده العظيم السبط الكريم خامس أصحاب الكساء الإمام الحسين، عليه السلام.
نعم؛ عاد الإمام الرابع وهو خير الخلق وأكرمهم عند الله سبحانه وتعالى، ولكن ما الحيلة في أمة شرَّفها الله بنبيه الكريم وأهل بيته الأطهار، عليهم السلام، فسعت إليهم لتقتلهم بتلك الطريقة التي لم تفعلها وحوش الفلوات، فقتلوا خير الخلق لأجل شر الخلق والخليقة وأبغضهم إلى الله بني أمية أبناء الشجرة الملعونة، كما وصفها الله تعالى في قرآنه الحكيم.
عاد الإمام بالأرامل والأيامى واليتامى فما عساه أن يفعل في أمة يحكمها بني أمية الذين منعوا أحداً أن يجلس إليه أو أن يتعلم منه، أو أن يصله ويُشاركه حتى بمصيبته الكارثية، فكان مروان الوزغ يمنعهم – لا سيما الإمام وعمته زينب الكبرى، عليه السلام – حتى من البكاء والحزن.
-
زين العابدين وسيد الساجدين
فكان لا بد للإمام، عليه السلام من إيصال رسالته، فكيف الطريق والسبيل إلى ذلك؟ وقد سدَّت أمية كل الطرق للوصول إليه، فكان لا بدَّ من طريقة مبتكرة، وأسلوب فريد متمثل بإعطاء الأمة قدوة، وأسوة لها فريدة من نوعها، وجديدة في أسلوبها، ومتفردة في طريقتها، وهي العبادة ومخها الدعاء فوضع نفسه في خدمة الله سبحانه لترى الناس الصورة الحقيقية لرجل الدِّين، وإمام الأمة، وبالتالي الإنسان الواعي الحقيقي في هذه الحياة.
وكأنه قال للأجيال: إذا كان ربكم يقول لكم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، فالله خلقكم لعبادته، وسأعطيكم صورة كاملة عن الإنسان الذي يُريده الله منكم، وهذا ما يمكن لي أن أُعلمكم في مثل ظروفي هذه، فإن كان ليس بمقدوري الوصول إليكم، ولا باستطاعتكم الحضور عندي لأعلمكم شؤون وأمور دينكم فلا أقل؛ أن تروا مني الصورة الحقيقية التي يجب أن يكون عليها العبد الصالح الذي يحبه الله ويقربه إله.
فكان (السجاد) لكثرة سجوده لله، و(ذو الثفنات)، لطول سجوده على الصخور والحجارة، إذ أنه لا يجوز السجود إلا على الأرض، فكان يقصُّها ويحتفظ بها، حتى عُرف ب(زين العابدين)، و(زين العباد)، وكل هذه الصفات التي أطلقتها الأمة على إمامها الرابع (ع) لتُعطيه حقَّه فيها لأنه كان مثالاً واقعياً لرجل الله، ولولي الله، الذي يعبد الله ويتقيه ولا يُشرك به أحداً.
-
الإمام السجاد
ورد في الحديث القدسي عن رب العزة والجلال قوله: “لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل والعبادات حتى أحبه فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها“، ومَنْ فقه عن الله تعالى الذي يقول: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} (الفرقان: 77)، فيُدرك أن (الدعاء مخُّ العبادة)، وبما أن الإمام الرابع زين العابدين، وسيد الساجدين، فكان مخُّ دعوته ورسالته في الأمة هي الدعاء، واتَّخذ منهجاً راقياً جداً لم يسبقه إليه أحد من الخلق ولن يلحقه به أحد من بعد.
الدعاء حالة نفسية راقية وصافية تكون فيها بحالة من الاطمئنان بحيث تكون أهلاً للحديث مع الرب سبحانه وتعالى، فأهل العلم قالوا: “إذا أحببتَ أن يُحدِّثك الله فاقرأ القرآن، وأما إذا أردتَ أنتَ أن تتحدَّث مع الله فاعوه”
يقول سماحة السيد المرجع المدرسي (دام عزه) في كتابه الراقي عن الدعاء: “الدُّعاء، صنفٌ من المناجاة بين العبد وربّه، يتضمَّن ـ فيما يتضمن ـ إيحاءات ذاتية للداعي نفسه، بما يتلفّظه لسانه، قد تنتشله من وَهدة اليأس، وقد تستنهض همّته للثورة والجهاد، وقد تُذكِّرُه بما كاد ينساه من واجبات حيال دينه وعقيدته ورسالته، هذا، فضلاً عن أن الدُّعاء (سلاح المؤمن) ـ كما ورد في الحديث الشريف ـ، سلاحه الذي يرفعه بوجه الظالمين اذا أعيتهُ السبل.. كما فعل الإمام زين العابدين، عليه السلام، وسلاحه الذي يمتشقه في حربه الضَّروس مع نفسه الأمّارة بالسوء {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}. (يوسف: 53)، وسلاحه في مسيرته الحثيثة نحو السمِّو، والتكامل، والارتقاء، وسلاحُه في كدحه الحتمي نحو الحق تبارك وتعالى”. (تأملات في دعاء الافتتاح).
فالدعاء حالة نفسية راقية وصافية تكون فيها بحالة من الاطمئنان بحيث تكون أهلاً للحديث مع الرب سبحانه وتعالى، فأهل العلم قالوا: “إذا أحببتَ أن يُحدِّثك الله فاقرأ القرآن، وأما إذا أردتَ أنتَ أن تتحدَّث مع الله فاعوه“، فحديثك مع الله هو خلوتك به وبثُّك لما تعتلج به نفسك، ويختزنه صدرك من آهاتٍ، وأنَّاتٍ وقد أعطاك فرصة لتتحدَّث معه، ولكن عليك أن تتحدَّث حديث المحب مع حبيبه، وتتحلى بأدب المحبين حتى إذا قرَّبك واختارك لقربه.
ثم ارتفع وارتق معه ليكون حديثك حديث العاشق الولهان بربه الدَّيان واطلب من فيضه فإنه منَّان ورحيم ورحمن، كما فعل الإمام زين العابدين في دعائه في الصحيفة السجادية المباركة، وفي مناجياته المختلفة التي تُعلمك كيف تتحدث مع إلهك حديث العاشق، حيث يقول: “اِلهي مَنْ ذَا الَّذي ذاقَ حَلاوَةَ مَحَبَّتِكَ فَرامَ مِنْكَ بَدَلاً، وَمَنْ ذَا الَّذي اَنِسَ بِقُرْبِكَ فَابْتَغى عَنْكَ حِوَلاً..
يا مُنى قُلُوبِ الْمُشْتاقينَ، وَيا غايَةَ آمالِ الْمُحِبّينَ، أَسْاَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ كُلِّ عَمَل يُوصِلُني إِلى قُرْبِكَ، وَأَنْ تَجْعَلَكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمّا سِواكَ، وَأَنْ تَجْعَلَ حُبّي إِيّاكَ قائِداً إِلى رِضْوانِكَ، وَشَوْقي إِلَيْكَ ذائِداً عَنْ عِصْيانِكَ”
فما أحوجنا في هذا العصر المادي لإمامنا السجاد، عليه السلام، الذي بثَّ في الأمة روح العبادة والطاعة وأذاقها حلاوة الدعاء والمناجاة، فحقاً هو قدوة المحبين، ونبراس العاشقين لرب العالمين.