منذ مدة التقيت بإحدى الاخوات العزيزات وهي زميلة بأيام الدراسة، واذا بي أجد التجاعيد قد ملأت وجهها، وشاب شعر رأسها قبل آوان المشيب.
فبادرتها بالسؤال عن حالها وتطورات حياتها، فبدأت تقصّ لي جزءاً من واقعها المرير قائلة:
كيف يكون حال من تخفي نصف حياتها عن زوجها!
قلت لها: ولماذا الإخفاء؟
قالت هو سيئ الظن جداً بالآخرين، ولا تتوقعي يا أختي أني أخفي سوءاً -معاذ الله- عنه.
فقلت: إذن؛ ماذا؟
قالت: أخفي عطائي للآخرين من مالي الخاص؛ لاخواتي، او أقاربي، او المحتاجين، حتى الاولاد تعودوا على وضع ابيهم، والذي ما ان يسمع كلمة عن هذا أو ذاك، حتى يقول: قاطعوهم! ولاتذهبوا اليهم، ولا يأتوا اليكم.
و رغم انه ملتزم بهذا المنهج منذ سنوات، لكني لا أريد ان يكون أولادي مثله؛ قاطعي الرحم، وسيئي الظن، ومنعزلين في البيت، علماً أني لا أشوه صورته امامهم مطلقاً، ولهذا أفسح لهم بعض المجال للمشاركة مع اولاد خالتهم، والخروج مع أولاد أعمامهم ضمن حدود بسيطة.
قلت لها: وماذا عن الطموحات والاهداف المستقبلية؟
قالت: ثمة ربٌ رحيم، كلما أغلق زوجي بوجهي باباً، فتح ربي لي باباً آخر، و أفضل منه، ولكن مع ذلك أشعر، ولسنوات أني أحمل ثقل الأب والأم معاً بالبيت والتربية والخروج والواجبات، وحتى الخوف الدائم من لحظات انفعاله عندما يعلم بما أفعل، وهذا ما جعلني، كما ترين، أشيخ قبل أواني، ولله الحمد على حسن بلائه وجميل نعمائه.
هكذا ختمت صديقتي الكلام لتجعلني أعيش مع دوامة التفكير. سبحانك ربي؛ ولهذا جعلته (الكاد على عياله) مقابلاً ومشاطراً لما يعانيه المجاهد في سوح الجهاد.
ثم تأملت بجانب آخر، ربما هذه الزوجة هي من تهوّل الموقف، وتركز عليه أكثر فيكبر أكثر، ويتعمّق في ذهنها رغم وجود صور أبشع وقصص أكثر ألماً بالحياة!
-
في عمق التجربة
الكل يعلم ان كلا الزوجين ومنذ بداية الحياة الزوجية بينهما يعملان على التغيير والتلاؤم؛ أحدهما مع الآخر، وتلبية طلباته، وان كانت لا تتناسب مع ميول أحدهما، فيسعى كل منهما تارة بالخفاء، وتارة علناً ليجعل الآخر متطبّعاً بطبعه، محباً لما يحُب وكارهاً لما يكره.
وقد تكون الزوجة بسبب طبيعة تكوينها العاطفي، المحب الاكثر إحتكاكاً مع هذا الجانب، ولكن؛ تأتيها النصائح من هنا وهناك، فواحدة؛ تقول لها: إصبري، وتلك تقول: إبدئي، و اضربي بيدٍ من حديد! وثالثة تقول: غيّري، و رابعة: تؤيسها من التغيير بقولها: “طبع الذي بالبدن لا يغيره إلاّ الكفن”!
وهكذا تستمر الحكاية، وتبدأ معركة الصراع للتغيير في داخل المرأة، وما يوحي لها بجملة: “زوجك وماعوّدتِهِ وإبنك وماربيتِهِ”.
وحقيقة غريبة، هذه الطريقة، رغم أنها برمجة سائدة بمجتمعاتنا؛ فليس لأحد الحق في إكراه أحد بما لا يرغب، إلا اذا أراد و شاء هو بنفسه، ثم عمل هو لذلك التغيير، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.
فليس من الانصاف أن تجبر المرأة زوجها على ما تحب، وتجعله نسخة لهواها، وميولها، و رغباتها، فهو بشر، ومن حقه الاختيار والرفض والقبول، إلاّ بطريقة واحدة وهي؛ ليونة مشاعرها، وصدق نواياها، ودعواتها بأن تدلّه على ما يحقق لهما السعادة. وغير خافٍ على أحد قدرة الكثير من الزوجات، وتفننهن في نحت قلوب الأزواج، وتمرير قناعاتهنّ بحب و لطف و أسلوب عذب.
ومع ذلك؛ في خضم هذه التيارات التي قد تتضارب أحيانا، ربما يكون من الطبيعي جداً ان يرفض الزوج تغيير اسلوب معين لديه، او حالة ما، ويصرّ على ما هو عليه، رغم كره الزوجة لما عليه الزوج الذي ربما يكون متقاطعاً مع القيم الدينية والاخلاقية، مثل؛ البخل مع العائلة، والتشدد الزائد عن حدّه في أمور عدّة، أو قراره بحظر العمل خارج البيت بدون سبب موجه، أو إبداء الكراهية لعائلتها، أو الانفعال المستمر.
وهكذا تقف اغلب الزوجات في واقعنا عند مفترق طُرق صعبة ووعرة، فلا هي تستطيع العودة، ولا هي تستطيع التواصل والمقاومة، والحالة الواردة في هكذا وضع، هي؛ موت المشاعر، ونهاية الحب، وتستمر العلاقة الزوجية لكن؛ على مضض، وبلا تناغم و تواصل بين روحيهما، فقد تحطمت الجسور.
-
خلطة سحرية أولاً وثانياً: التسامُح والعفو
مفردتان مهمتان جدا في الحياة الاسرية تحتاجها الزوجة والزوج كثيراً، وعلى حدٍ سواء؛ فالتسامح من الأخلاق التي ندب إليها الإسلام، وهو سجية وخلق تدفع الإنسان للتجاوز عن إساءات الآخرين، والصفح عن أخطائهم، والإغضاء عنها، وعدم مقابلة الإساءة بمثلها، انما باللين والعفو والتساهل وعدم التشدد والعنف.
فالتسامح هو شعور إيجابي، يفيض رحمة وعطفاً وحناناً. قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمٌ}، ولأن العفو والصفح من مصاديق التسامح، فقد جاء في مدح هذه الخلّة الإنسانية عن الإمام علي، عليه السلام، قوله: “العفو تاج المكارم”.
وبناء الاسرة من أهم وأعظم ما في الحياة من تشييد في المجتمع، ومن الطبيعي أن يتعرض للمشاكل التي قد تسبب التصدعات الداخلية في جدرانه، فان لم يتم ازالتها آنيا، بالعفو، وغضّ الطرف، والتسامح، سيكون كلا الطرفين؛ الزوج والزوجة، قد جمع أحدهما للاخر عدداً كبيرا من الزلات والاخطاء التي يريد ان يقتصها منه ما ان تحين الفرصة لذلك، وهذا مما يسبب الكره والحقد والتذمر من الحياة الزوجية عندما تتحول الى حلبة صراع، أيهما الرابح او الخاسر!
-
ثالثاً ورابعاً : التقبّل و النظر الى الايجابيات
إن حالة التقبّل بين الزوجين تجسد الإحترام المتقابل، لاسيما ما يتعلق بطباع الرجل، وتحديداً ما لا يؤثر على المرأة، مثل منعها من الخروج في بعض الاوقات ، أو تقليل دفعات الذهاب الى أسرتها، او لمشوار ما. ومن جانب المرأة؛ تقليل المصروفات والمشتريات، فليس من الوارد أن يكون الرجل نسخة طبق الاصل مما تريده المرأة، بل ذلك مجحف ايضا بسحق رغباته وميوله التي من الممكن ان تكون له وجهة نظر نابعة من الحب والإهتمام بها.
ثم النظر بايجابية الى الحياة بينهما وهذه النقطة مهمة جدا بأن يكون هناك احصاء للإيجابيات، واستمرار ترديدها والتأمّل فيها، مثلا؛ زوجي يصرف عليّ وعلى اولادي إذن؛ فهو كريم. أو زوجي لا يسمح لي بالسفر لوحدي، إذن؛ فهو يخاف علي ويحبني. أو زوجي يمنحني الحرية، زوجي مساند لي في تطور حياتي، انه مُحاور، مُتفهم لقلّة نشاطاتي البيتية.
وهكذا؛ تذكر الزوجة الايجابيات، وإن وجدت حالة سلبية تنظر لها من الجانب الايجابي، وبهذا تجد العشرات من الصفات الطيبة به، فتحفزه وتذكرها أمامه دائما، وتشكره عليها لتزداد، ولتكون عامل فخر وتشجيع له.
إذن؛ بدل أن نحتّم الموت بحياتنا، او نهدمها ونقودها للطلاق، يجدر بنا النظر بعين ملؤها الرضا والحب والتفهّم.
يقول الامام الشافعي:
وعين الرضا عن كُل عيب كليلة ٌ ولكن عين السُخط تبدي المساوئا
-
عقباتٌ في الطريق
رغم ما يشيع البعض عن موضوعة الزواج، ويهوّل عن مشاكله، لكن يبقى الحب بلسماً، والمودة والرحمة جُعلا بقدرة ربانية بحيث يحوّل العلقم حلواً، خاصة مع التفكّر بنعمة الزوج وأهمية وجوده بالحياة قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
ومن هنا نذكر بعض النقاط المهم تلافيها مثل:
1- اشاعة النظرة السلبية عن الزواج، وانه باب للمشاكل في المجتمع، وتعميم الحالة السلبية على جميع الزيجات.
2- الشكوى للاهل او للابناء وخروج الاسرار العائلية خارج البيت.
3- حالة عدم الرضا، وندب الحظ العاثر، وعدم التلبية لما يطلبه الطرف الآخر، و وصفه كونه مقصراً فيما عليه من واجبات .
4- عدّ العزوبة حلاً ومخرجاً من مطبّات الزواج.
نعم؛ هنالك صعوبات، ولكن الثمار اكثر وأجمل من حياة الشاب الأعزب أو المرأة العزباء.
إذن ليس من الصحيح التهويل، وذكر المطبّات، والتنكّر للايجابيات الكثيرة، والرحمة الالهية النازلة على الانسان، انما يجدر النظر الى أن حسن التبعل باب رحمة و رضا، ومآب جنة وسعادة.
ختاما نقول لكلا الطرفين:
سامح ثم سامح ثم سامح. فهذا خلق الانبياء، ولان حياتكما السعيدة تستحق القليل من التنازلات، سواء قدمتها أنت أيها الزوج، أو أنت أيتها الزوجة، متمنين للجميع الحب والوئام الدائم.