يختلف الناس في نموهم من شخص الى آخر، فهناك من يتوقف عن التقدم بعد فترة قصيرة من الزمن، وهناك من يستمر في ذلك بطريقة منتظمة. إن النبي، صلى الله عليه وآله حينما قال: “اطلبوا العلم ولوبالصين”، أو قوله: “اطلبوا العلم من المهد الى اللحد”، ما كان يعني أن على الإنسان أن يقرأ ويكتب من أول عمره الى آخر، بمقدار ما كان يعني أن يبقى في ديمومة من النمو علميا، وعلقيا، وعمليا.
ذلك أن الإنسان يخلتف عن غيره من الموجودات في كونه إذا توقف تأخر وتراجع الى الوارء، بينما السيارة إذا توقفت فإنها تكون قد توقفت فقط، ولم تتراجع الى الوراء.
يقول الإمام الصادق، عليه السلام: “مَن استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يرَ الزيادة في نفسه فهو الى النقصان، ومن كان الى النقصان فالموت خير له من الحياة”.
فالإنسان كالماء؛ فكما أن الماء إذا توقف أصبح آسنا وفسد وأفسد ما حوله، كذلك الإنسان إذا توقف عن التغيير والإصلاح الدائمين، لأن الحياة بين أمرين لا ثالث لهما، إما أن تتطور إلى الأحسن أو تتراجع الى الأسوأ، وليس الإنسان استثناء من هذه المعادلة الربانية والتي تقول: إما التغيير الى الأحسن، وإما التراجع الى الأسوأ، وحينما يكون التراجع الى الأسوأ، فإن الموت والركود والتوقف وكل سيئات الحياة تتراكم في ذلك المجتمع، وأولئك الناس الذين يرفضون التغيير.
لا يجوز لنا أن نرضى بحد معين من التطور، سواء على المستوى الشخصي أو الجمعي، فالذي يرضى بتوقف نموه كفرد فإنه يوافق على انهيار حضارته تماما
أما لماذا يتوقف الناس في وسط الطريق؟ فإن ذلك يعود الى لعدة أمور فمثلا: البعض يتوقف بسبب الغرور، حيث يظن أنه بلغ أقصى ما يمكن بلوغه وآخر يتوقف لأن اليأس قد خيّم عليه، فهو يعتقد بأنه لا يستطيع أن يبلغ أكثر مما بلغه من التقدم والرقي.
لذلك فإنك ترى أن الذين يعملون في المعامل ـ مثلا ـ على صنفين: صنف يعمل وبعد عشرة أعوام يمتلك معملا يديره بنفسه، والآخر يظل على وضعه وعمله، حتى بعد أكثر من عشرة أعوام من الزمن.
بعض القرويين ومنذ 500 عام لا يزالون يعملون نوعا واحدا من العمل وبأسلوب معين، لكنهم يبقون حتى بعد خمسة قرون من الزمن في نفس المستوى من الإنتاج، لأنهم لم يطوروا أساليبهم ولم ينموا قابلياتهم.
وهذا الأمر ينطبق أيضا على الحضارات فالحضارة، التي تتوقف عند نقطة معينة، سواء كان هذا التوقف غرورا أو جهلا، فإنها بلا شك وكأنها تعلن بداية الانهيار، وقد رأينا عبر التأريخ كيف أن الكثير من الحضارات زالت وبادت حينما توقفت عندها عجلة التقدم والنمو.
إن أي حضارة تطمح بالبقاء والاستمرار لا بد لها من الحركة الدائمة نحو التطور، والحضارة التي ترغب في النمو وعدم الانهيار لابد لها من أمرين:
الأول: تقييم مسيرتها بين فترة وأخرى، تماما كمن يريد بلوغ هدف ما بسيارته، فهو ينظر بين فترة وأخرى الى الخارطة ليتأكد من أنه ما زال يسير في الطريق الصحيح، وأنه لم ينحرف عن مساره وبهذا المعنى فإن تقييم المسيرة يعني الارتياد على مواقع البناء لتقييم الاعوجاج في جسم المسيرة.
الثاني: الحركة والتطور، فلا يجوز التوقف، لأنه لا يعني التراجع كما ذكرنا، ولذلك لا ينبغي تنويع الأساليب والوسائل، فالتجمد يعني الانتحار، لأن عجلات الحياة مسننة تطحن من يقف في طريقها من دون حركة.
ولا بد أن نقول هنا: إن تطوير الاساليب أمر مهم، ذلك أن الأمة الجامدة تنهزم وتخرج من الريادة الحضارية، فلو كانت اكتفت أمة بحد معين من التطور العلمي، وتوقفت عن البحوث والدراسات العلمية، فإنها قد تكون بداية متقدمة علميا، إلا أنها بسبب تعطيل البحث العلمي ستصبح أمة متخلفة بعد أن كانت رائدة، فلو أن شعبا اكتفى بالاذاعة الصوتية فإنه سيجد اليوم منافسة قوية من شعوب أخرى تمتلك القنوات الفضائية.
يقول الإمام الصادق، عليه السلام: “مَن استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يرَ الزيادة في نفسه فهو الى النقصان، ومن كان الى النقصان فالموت خير له من الحياة”
وإذا توقف جيش ما عند القنبلة العادية فإن عدوه سيستخدم الصواريخ، وإذا قبلت شركة طيران نقل سرعتها 500 كيلو متر في الساعة، فإن شركات أخرى ستتغلب عليها بطائرات تسبق الصوت بمرات عديدة، وتجارب الشعوب والأمم واضحة في هذا المجال، فكم من أمة كانت سباقة في مجالات متعددة، اصبحت اليوم في مؤخرة الركب العالمي.
ولهذا فلا يجوز لنا أن نرضى بحد معين من التطور، سواء على المستوى الشخصي أو الجمعي، فالذي يرضى بتوقف نموه كفرد فإنه يوافق على انهيار حضارته تماما.
إن تطور الحضارات وعدم جمودها، أمر مهم وأساسي في هذه الحياة، ذلك أن التجديد من أسرار استمرار الحياة، فالبقاء على حالة واحدة معناه الموت، فلو أن الليل لم يتحول الى نهار، أو أن النهار لم يتحول الى ليل، أو أن الطفل لم يكبر، أو أن الكبير لم يهرم..، او أن الصيف لم يتحول الى شتاء..، لكانت الحياة جامدة كجمود المقابر، التي تتركها الآن لتعود إليها بعد ألف عام لتجدها كما كانت عليه، لا حركة فيها، ولا تغيير، ولا تبديل.
فالتجديد إذن قانون هذه الحياة والحضارة التي تتناغم معه، فتطور عملها، وتأتي دائما بالجديد فسوف يكتب لها النجاح، أما الحضارة التي ترفض التجديد، وتقبل بالجمود فهي التي تحكم على نفسها بالفشل.
إلا أن التجديد والتطور المطلوب، هو ذلك التجديد والتطوير ضمن إطار أصالة القيم والالتزام بالثوابت، فالحضارة التي تتجاوز القيم بدواعي التطوير هي حضارة تتجه نحو الهاوية دون أن تشعر، وإن التجديد المبتني على نقض الثوابت هو تدمير للأمة؛ ذلك أن سنن الله تعالى حاكمة على الكون: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}.
——————————————
- مقتبس من كتاب أصول الحضارة بين روح القيم وبراعة الشكل.