تربیة و تعلیم

الفن التشكيلي أصول وتـأصيل

الفن التشكيلي (رسم ،نحت، تصميم ، عمارة) هو تعبير عن مكامن النفس الإنسانية من انفعالات وأحاسيس، وهو رسالة الفنان الموجهة إلى الجمهور عبر العصور والازمنة فاصح من خلالها عما يحيط به من قضايا وأحداث تعكس نوع ثقافته ومقدار إدراكه، ومن هذا المنطلق نجد الفن التشكيلي  له ترتيبه الأساسي في  الأولويات التي توضع في سبيل تحقيق النضال الفكري والثقافي للشعوب، والحضارة بكل دعائمها  وبكل ما يميزها عن غيرها بل هو الركن الأساسي من أركانها والواجهة الرئيسية التي تستطيع أن تعّرف به عن نفسها وبهذا وجِد الفن التشكيلي كمصدر مهم من المصادر التي يمكن الرجوع أليه في معرفة تاريخ أي أمه من الأمم، وهو سجل بياني يوضح مراحل تطورها وبذلك يمكن للإنسان أن يتعرف على أصوله وتاريخه من خلال الأمجاد الفنية لأسلافه.

 

ثم أن الفن التشكيلي يتميز بخطابه الموجه وأسلوبه المناسب الذي يتوقف في اختياره على مستوى النضج الثقافي للمجتمع، وبما يتلاءم مع طبيعة الظروف التي ينبغي التعبير عنها والتي تتطلب اتخاذ موقف حقيقي منها، فهو خطاب يؤثر على أذواقنا من حيث تمييزه بين الخير والشر وكذلك يؤثر على وجداننا من حيث كونه سجلا تاريخيا يحمل أفكار ومعتقدات وأماكن في تسجيله لانفعالات الناس وتاريخهم ومعتقداتهم بصورة مترابطة متكاملة، فقيمة هذا الفن يحددها ما يقدمه من خدمة في التأصيل من خلال الكشف عن الطابع الحياتي الذي يعيشه الإنسان عبر العصور فهو بذلك أكد لنا هويته التي لا يمكن التلاعب بتاريخ صدوها والتجاوز على تاريخ نفاذها فلعب دورا اقرب ما يكون إلى التصوير الفوتوغرافي.

 

الفن التشكيلي تعبير عن مكامن النفس الإنسانية من انفعالات وأحاسيس، وهو رسالة الفنان الموجهة إلى الجمهور عبر العصور والازمنة فاصح من خلالها عما يحيط به من قضايا وأحداث تعكس نوع ثقافته ومقدار إدراكه

 

وقد أعطانا صورة علمية جديدة، حيث أنه شرح وحلل الطبيعة كنظام مؤلف من موضوعات في فضاء بثلاثة أبعاد، ومع نمو الفكر الإنساني وتطور الحياة وتعقدها صار الفن التشكيلي أبعد من أن تكون غايته الاكتشاف والجمال فقط، بل صار يبحث في العلاقات الاجتماعية أي موضوعاته من داخل المجتمع ووفقا لحاجته وطبيعة تفكيره، وفضلا عن ذلك تنعكس لنا أيضا قيمته في كونه يعرفنا بالأمجاد وهو لا يقل أهمية عن التاريخ الكتابي بل لا يمكن تصور أي حضارة لولا فنونها، وهو ليس وسيلة تواصل ومعرفة بين الحضارات المختلفة فقط بل هو بمثابة رسالة تحمل بين طياتها مضمونا أخلاقي يؤكد معنى التطور والتقدم والنهوض بكل ما يمكن، ومن هنا جاء تاريخ إسلافنا ليقدم لنا تصورا مبدئيا عن طريق الفن التشكيلي يحكي لنا من خلاله قصة الأمجاد والمغامرات والمواقف الجادة سوى كان ذلك بما جسدوه من اعمال أو من خلال الرؤية التي تفصح لنا عن هذا المضمون ليخرجوا ما تركوه لنا من تراث ينم عن شخصية ذو فكر متطور وما قدموه من أعمال لازلت تحتفظ بانعكاساتها الجمالية.

كما أنه يشع الحضارة ويميزها عن الحضارات الأخرى ويؤكد هويتها، وأيضا تأتي قيمته في ما تحمله تلك الأعمال من قيم ومبادئ تهذب السلوك الإنساني وتعزز تعامل الفرد مع مجتمعة ومع البيئة التي يعيش فيها، ثقافة أشبه بنافذة يمكن أن يتعلم الإنسان عن طريقها التاريخ الإنساني بصوره أكثر تكاملا من الأفكار المعنوية المجردة التي يحفظها ويرددها، دون أن  يكون لها مدلول واقعي في خبرته.

ويكفي عرض تمثال من عهد الحضارة السومرية،، ويقارن بتمثال من فتره قبله أو بعده :من الحضارة الأكادية أو البابلية أو الأشورية، أو تمثال لهنري مور في العصر الحديث، ليقرأ في طيات هذه التماثيل فلسفة العصر الذي يعيش فيه هذا الفنان، واتجاهه الثقافي، ونوع تذوقه، بصورة أوضح وأعمق مما يمكن قراءته قراءة ظاهرية في كتاب متخصص، فقيمة هذا الفن ومدى نفعه في كونه وسيلة متطورة في خدمة الفكر الإنساني ولتأثير خطابه التشكيلي اذ نجد من ذلك إمكانية تأصيل ما نريد تأصيله من أفكار ومعتقدات وقيم اجتماعية مختلفة.

كما يمكن مواجهة أي فكر يحاول محو هوية الانتماء بأشكالها المختلفة المادية والمعنوية من خلال تقديم الأعمال الفنية التشكيلية الهادفة التي نؤصل من خلالها ما نريد تأصيله والتي ستكون بعد ذلك أصول نرثها غيرنا لنعزز بها بيئته ونعّرفه بأصوله، وهذا ما دفع أو يدفع الإرهاب من أن يستهدف المعالم التشكيلية الحضارية لاسيما في عراقنا الحبيب لأنه يعرف أنها بمثابة جذور تربط الفرد بأصوله وتغذيه بما تحمله من معاني التأصيل، وما نجده في العمل النحتي (نصب الحرية) للفنان العراقي الراحل جواد سليم خير مثالا عن ما يظهر دور هذا الفن في كونه أصولا وتأصيلا لفترة زمنية محددة صورها الفنان من خلال مقطوعته الفنية..ولو وقفنا امام هذا العمل الفني الكبير الذي يتوسط ساحة التحرير في بغداد نجده مشحونا بعواطف وذكريات الفنان فهو نتاج واقع عاشه الفنان وذاق طعم حلاوة زمانه ومرارته، أو صار الوسيلة التي تترجم من خلالها فكرة وعما يريد إيصاله من رسالة اتصلت بوحداتها المتنوعة عن مفهوم وموضوع شامل، وهو مفهوم الثورة التي جسدها بعناصرها وطاقاتها البشرية والمادية وبهذا أصبح عمله الفني وسيلة ملائمة استطاع الفنان التعبير من خلالها عن أفكاره وما اراد التعبير عنه.

 

الفن التشكيلي يتميز بخطابه الموجه وأسلوبه المناسب الذي يتوقف في اختياره على مستوى النضج الثقافي للمجتمع، وبما يتلاءم مع طبيعة الظروف التي ينبغي التعبير عنها والتي تتطلب اتخاذ موقف حقيقي منها

 

فهو قدم مقطوعة النحتية وبطريقة  أشبه ما يكون القطعة النثرية لكن الفارق هو ان كلمة الفنان جسدها بشي ملموس ومحسوس، وترجم لنا من خلالها عن واقع عاشه الفنان فهو عرفنا عن معاني وقيم وأفكار المجتمع آن ذاك وهذا ما جاء في منحوتة الحصان الذي غير من خلالها الاصابة والفحولة والقوة أو منحوتة الرجال الأربعة الذين يمثلون جمهور الثورة الرفض للاستعمار، وبدء الثورة أو منحوتة الباكية التي صورها الفنان على نحو يمثل عادة من اعرق العادات الشعبية في هذا البلد، فالنساء في هذا البلد أذا ما وقع أمر جلل واجهنه، كغضب أو بكاء رفعت الواحدة عباءتها ولفت بها أعلى جسمها وراحت في رثاء وصياح وهي تمثل الغضب والفاجعة وتجعل معنى الثورة متواصلاً، وبذلك جسد الفنان كلمته بشكل تتحمسه فصار عند ذلك وسيله عرفتنا بواقع حال المجتمع ان ذاك.

وهو في عمله الفني (نصب الحرية) رأى الثورة أكثر من وثبة جندي ويترك في قيمتها ونجاحها كل عناصر المجتمع فهو عند ذلك وثق لنا وسجل من خلاله أيضا دوافع وأفكار وفكر الشعب ان ذاك فجاءت وضيفته قراءة حدث أو واقع من الحياة وتسجيله وحفظه.  ويمكن ان نقول انه أعتمد في تأثيره على بعدين الأول الناحية المادية و المتمثلة بالهدف الذي أراده الفنان في هذا العمل الفني وهو تخليد حدث مهم وهو الثورة ضد الاستعمار والطغيان، وهي حاجة من حاجات أي مجتمع يعيش تحت هيمنة قوه أخرى متسلطة، مع وجود ما يضمن التخلص من هذا التسلط وهنا جاء العمل الفني أشبه بنصيحة يتقبلها المتلقي لارتباطها بحياته، كما جاء تأثيره من الناحية المادية من خلال الأسلوب الذي قدم فيه الفنان عمله والذي جمع بين النص البصري الصريح  والجندي والفلاحين (ألزراعه، العامل) والإيحاء الرمزي المتضمن (الحصان ، الباكية ،الحرية ، السلام والثورة والفلاح ) وبعضها كان مزيجاً من كلتا الطريقتين الرمزي الشكلي وألام والطفل والسجن وانهار العراق. وهذا الجمع غير الصريح في كليته يؤثر في المتلقي ويجعله يقف وينجذب الى العمل الفني أما موضوعه فهو موضوعات متعددة في موضوع شامل و كلي وهذا ما تحدده النظرة الى العمل الفني فإذا نظرنا الى العمل نظرة شاملة فيكون موضوع العمل الفني هو الثورة، أما إذا نظرنا الى منحوتاته بشكل منفرد فنجد كل قطعة بحد ذاتها موضوعاً وكلها موضوعات نابعة من محيط الفنان لذا نجد المتلقي يتفاعل معها لاسيما أذا اتسمت مع مكامن النفسية وقضيته الاجتماعية، اما تأثيره من الناحية المعنوية فما تعبر عنه القطع النحتية من أفكار ومعاني وقيم فهي تؤثر على وحدتنا، وبذلك تميز الفنان التشكيلي من خلال عمله كونه يؤثر على أذواقنا من حيث تميزه بين الخير والشر الجميل والقبيح.

وكذلك اثر فينا بما يحمله عمله من عناصر انتمائية وجدانية  ومن ذلك نجد ان  للفن التشكيلي دورا مهما يمكن ان يكون فيه أصول للأجيال ألاحقة من خلال تأصيله للقيم والمبادئ وكل ما يتسم به المجتمع وما يتميز وبذلك يكون رسالة تحملها الأجيال من جيل الى جيل آخر.

——————————————

المصدر

  • جبرا، جبرا إبراهيم : جواد سليم ونصب الحرية، مؤسسة رمزي للطباعة ، بغداد، العراق 1974.

عن المؤلف

م.م حسين رشك خضير/ كلية التربية الأساسية/ جامعة ميسان

اترك تعليقا