إضاءات تدبریة

الشفاعة ماهي؟ کیف؟ ولمن؟

سألني أحدهم قائلا: إن رسول الله، صلى الله عليه وآله، أعطاه الله الشفاعة، فهل يعني هذا أن شفاعة الرسول مطلقة؟ أي أن شفاعته مقبولة من دون قيود؟

مثلاَ: هل يشفع رسول الله، لعمه أبي لهب الذي كان مشركاً وظل على شركه الى آخر لحظة من حياته؟

مثال آخر: هل يشفع لأبناء وأحفاد عمه العباس، أي للحكام العباسيين الذين يشهد التاريخ بسعة ظلمهم للعباد والبلاد واستباحتهم للحرمات، وهم بنو عمومة النبي؟

مثال ثالث: هل يشفع للمؤمنين الذين يرتكبون الذنوب والمعاصي فيطمئن العصاة والمذنبون أنهم يدخلون الجنة بالشفاعة مهما ارتكبوا من الذنوب في هذه الحياة.

 

  • فی الکتاب والسنة

لكي نعرف أبعاد الشفاعة وحدودها علينا أن نرجع الى مصادر الفكر الديني ومنابع الثقافة الإسلامية.. الى وحي الله المنزَل (القرآن) والسنّة الشريفة (الأحاديث).

 

  • ماهي الشفاعة؟

1- لا شك في اصل الشفاعة فان الله تعالى – وبحكمته البالغة – أقرَّ مبدأ الشفاعة، وفي القرآن الكريم آيات عديدة تتحدث عن الشفاعة وكأنها امر مفروغ منه، وإنما تتحدث الآيات عن حدودها وقيودها مما يعني أن اصلها لا شك فيه.

وإذا اردنا أن نعرِّف الشفاعة بلغة بسيطة فهي: التوسط لبعض العباد المؤمنين امام محكمة الرب في يوم الحساب لتخليصه من تبعات الذنوب التي امتزجت بحياته الايمانية، وشوَّهت طاعاته لله والرسول.

 

يقول صلى الله عليه وآله: “لا يَنالُ شَفاعَتي مَنِ استَخَفَّ بِصلاتِهِ، ولا يَرِدُ عَلَيَّ الحَوضَ لَا وَالله”

 

  • حدود الشفاعة

2- ولكن الشفاعة هذه ليست مطلقة، ولا حسب مزاج الشفيع، فهي لا تشمل المشرك والكافر، ولا تشمل الظالم وتارك الصلاة ومن شابه، بل الشرط الاساسي الذي يؤكد عليه القرآن مراراً لقبول الشفاعة هو أن يكون المشفوع له مرضيّاً عند الله تعالى، وأن تكون الشفاعة في اطار رضا الله. أما من لم يكن كذلك فانه لا تنفعه شفاعة الشافعين، يقول الله تعالى:

– {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ}. (سورة الانبياء: 28).

– {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ}. (سورة النجم: 26).

وسُئل الامام الرضا، عليه السلام، عن معنى قوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ} فقال: “لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى اللَّهُ دِينَهُ”. (بحار الانوار، ج8، ص34).

 

وقال الامام الصادق عليه السلام، في رسالته الى بعض أصحابه: “وَاعلَمُوا أنّهُ لَيسَ يُغني عنكُم مِنَ اللّهِ أحَدٌ مِن خَلقِهِ شَيئا، لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولا نَبِيٌّ مُرسَلٌ، ولا مَن دُونَ ذلكَ، فَمَن سَرَّهُ أن تَنفَعَهُ شَفاعةُ الشافِعِينَ عندَ اللّهِ فَليَطلُبْ إلى اللّهِ أن يَرضى عَنهُ”. (بحارالأنوار، ج8، ص53).

إذن، فالشفاعة لا تكون الا في اطار رضى الرب المتعال عن عبده، فعلى العبد أن يسلك في حياته درباً يوصله الى رضا الله تعالى، وفي هذا الدرب اذا سقط احياناً في فخاخ الشيطان، والهوى، والشهوة فأذنب، فانه يأمل في شفاعة الشافعين.

 

  • لا شفاعة لهؤلاء

3- اما المشركون والكفار، وأما الظالمون، وأما تاركوا الصلاة – وهي عمود الدين وأساس العبادات والطاعات كلها – فلا شفاعة لهم. نقرأ في القرآن عن ذلك:

{وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}. (الشعراء:99-101).

{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}. (المدثر: 46-48).

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. (الأعراف:53).

 

الشفاعة تنال مَنْ يكون خطه العام في الحياة خطأ دينياً، ومَنْ يكون مطيعاً لله والأنبياء، ولكن قد تصدر منه بعض الكبوات والذنوب، فليس الناس بمعصومين، والمؤمن يقدم التوبة عادةً، إلاّ انه  ان مات قبل ان يتوب فهو يأمل الشفاعة

 

وعن المحرومين من الشفاعة، يقول الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله: “الشَّفاعَةُ لا تَکونُ لِأهلِ الشَّكِّ والشِّرْكِ ، ولا لِأهلِ الکُفرِ والجُحُودِ، بل یَکونُ لِلمؤمنینَ مِن أهلِ التوحیدِ”. (بحارالأنوار، ج8، ص58).

ويقول صلى الله عليه وآله: “لا يَنالُ شَفاعَتي مَنِ استَخَفَّ بِصلاتِهِ، ولا يَرِدُ عَلَيَّ الحَوضَ لَا وَالله”.

ويقول أيضاً: “رَجُلانِ لا تَنالُهُما شَفاعَتي: صاحِبُ سُلطانٍ عَسُوفٌ غَشُومٌ، وغالٍ في الدِّينِ مارِقٌ”

 

  • الشفاعة لهؤلاء

4- إذن، مَنْ تناله الشفاعة؟

الشفاعة تنال مَنْ يكون خطه العام في الحياة خطأ دينياً، ومَنْ يكون مطيعاً لله والأنبياء، ولكن قد تصدر منه بعض الكبوات والذنوب، فليس الناس بمعصومين، والمؤمن يقدم التوبة عادةً، إلاّ انه  ان مات قبل ان يتوب فهو يأمل الشفاعة.

يقول أميرالمؤمنين، عليه السلام: “اِسْتَجِيبُوا لاَنْبِياءِ اللهِ، وَسَلِّمُوا لاَمْرِهِمْن وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِمْ، تَدْخُلُوا فِي شَفَاعَتِهِمْ” (غررالحكم، ج1، ص139).

ويقول الامام الصادق عليه السلام: “إِذَا كَانَ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ نَشْفَعُ فِي اَلْمُذْنِبِ مِنْ شِيعَتِنَا، فَأَمَّا اَلْمُحْسِنُونَ فَقَدْ نَجَّاهُمُ اَللَّهُ”.

وبالطبع لا يعني هذا – اطلاقاً – أن يغرق الانسان في الذنوب والمعاصي غير آبهٍ بالأحكام الدينية، وغير متوجه الى الله والى طاعته، ثم يخدع نفسه بتوقع الشفاعة.

بل حتى القرابة من رسول الله، صلى الله عليه وآله، لا تنفعهم الشفاعة ان لم يكن هناك عمل صالح والتزام بالشريعة، فان الامام الصادق عيه السلام: “لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ مَكَّةَ قَامَ عَلَى الصَّفَا فَقَالَ: يَا بَنِي هَاشِمٍ! يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، وَإِنِّي شَفِيقٌ عَلَيْكُمْ، لَا تَقُولُوا إِنَّ مُحَمَّداً مِنَّا، فَوَ اللَّهِ مَا أَوْلِيَائِي مِنْكُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِكُم‏ إِلَّا الْمُتَّقُونَ. أَلَا فَلَا أَعْرِفُكُمْ تَأْتُونِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْمِلُونَ الدُّنْيَا عَلَى رِقَابِكُمْ وَيَأْتِي النَّاسُ يَحْمِلُونَ الْآخِرَةَ. أَلَا وَإِنِّي قَدْ أَعْذَرْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَفِيمَا بَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَبَيْنَكُمْ، وَإِنَّ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُم‏” (صفات الشيعة، ص5).

اذن، فلا ابولهب (عم النبي) ولا العباسيون (بنو عم النبي) ولا سائر اقربائه ان لم يكونوا ملتزمين بالاسلام، ولا المسلمون الظالمون، ولا تاركوا الصلاة، لا تشملهم الشفاعة. فالشفاعة ليست محسوبيات وقرابات وواسطات، بل هي تخفيف للمؤمنين الذين يسيرون في الدرب السليم بشكل عام ولكن قد تنتابهم السقطات التي لا يصرون عليها.

عن المؤلف

الشيخ صاحب الصادق

اترك تعليقا