المرجع و الامة

حِفظُ الأَرضِ مَسؤُولِيَّةُ الجَمِيع .. قِرَاءَةٌ فِي كَلمَةِ السَّيد المَرجِع المُدرِّسِي فِي مُؤتَمرِ (الإيمان والبيئة)

  • مقدمة قرآنية

كعادة سماحة السيد المرجع الديني، السيد محمد تقي المدرسي (دام عزه) في كلمته المختصرة والمركزة، ألقى فيها المسؤولية على عاتق الجميع لا سيما رجال الدِّين لأنهم حملة الرسالات السماوية لأهل الأرض.

وهو صاحب المشروع القرآني في الحوزة العلمية، حتى أن الحوزة العلمية التي يُشرف عليها (حوزة الإمام القائم عجل الله فرجه) تُسمى بالحوزة القرآنية، لأن جنابه دائماً وفي كل جلساته، وحواراته، وأفكاره أول منطلق له هو القرآن الحكيم كأصل وأساس يعتمد عليه ثم يعطف عليه الأصول والأسس الأخرى كالسُّنة المطهرة، لأنها المفسر الأول للقرآن، فانطلق سماحته مستشهداً في كلامه بالقرآن والسنة ثم عكسها على الواقع ومجريات المؤتمر ودواعيه في هذا العصر الذي يُدمِّرون فيه كل شيء جميل في هذه الكرة الترابية التي خلقها الله لنا جميعاً.

 

  • المسؤولية مشتركة بين الجميع

فبدأ سماحة السيد المرجع بقوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}. (الصافات: 24).

ثم يستشهد بقول أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام: “اتَّقُوا اللَّهَ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ، فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ“، بقية الكلمة هي في غاية الروعة حيث يقول: “وَأَطِيعُوا اَللَّهَ وَلاَ تَعْصُوهُ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ اَلْخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ اَلشَّرَّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُ“. (نهج البلاغة: خ167).

ولكن سماحة السيد كان يُريد أن يؤكد على المسؤولية، ولذا قال لهم سماحته مخاطباً لهم كقادة للأديان والسياسة: “أتحدث إليكم من موقع المسؤولية، حيث أن علماء الدِّين لهم وعليهم مسؤولية أخلاقية، ودينية كبيرة ترتبط بهدف هذا المؤتمر وهو التواصل بيننا والتكامل في أنشطتنا، والحفاظ على أرض الله التي خلقها لنا، فإن لعلماء الدِّين كلمة مسموعة فها نحن في سفينة واحدة تجمع بني البشر جميعاً، إن عرفنا أهمية هذه السفينة، وخطورة وجودنا فيها وأنه لو غرقت – لا سمح الله – غرقنا جميعاً”.

 

فساد البيئة يعني فساد العقول، وفساد الأخلاق، وفساد المجتمع، ومن ثم انهيار الحضارة

 

فالأرض هي لله استعمرنا فيها وأمرنا بإصلاحها وكل ذلك في آيات قرآنية حكيمة، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}. (البقرة: 29).

وقوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}. (هود: 61).

وقول الإمام الصادق عليه السلام: “فإن الأرض لله ولمَنْ عَمَرَهَا“. (الكافي: ج5 ص399 ح9284).

فالأرض لله تعالى ملكاً حقيقياً، وأصالة ودائماً، وكل ملك غيره فهو اعتباري ووكالة ومؤقتاً، وما البشر إلا مستخلفين، ومستعمرين لهذه الأرض، ومأمورين بإصلاحها وعدم الفساد فيها، بقوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}. (الأعراف: 56).

أو قوله سبحانه: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. (الأعراف: 85).

فعمارة الأرض هي جزء لا يتجزَّء من رسالة الأنبياء والرُّسل عليهم السلام، وهم أصحاب الأديان، والعلماء يتبَعون لهم، ويتسمون باسمهم الشريف ويلتزمون برسالاتهم المنزَّلة من السماء عليهم، وما هذه المؤتمرات إلا هي خطوة في الاتجاه الصحيح لقضية الكرة الأرضية ومشاكلها التي تُنذر بالخطر على الجميع لأنهم في سفينة واحدة ـ كما وصف سماحة السيد ـ وأي خطر للسفينة فيعني أن الخطر محدق بالجميع، والغرق يتهدد الكل كطوفان أبينا نوح عليه السلام، الذي لم ينجُ منه أحد إلا مَنْ ركب معه في سفينته العملاقة.

ولذا أراد سماحة السيد أن يضع الجميع أمام مسؤولياتهم، ولا أحد يلقي كلَّه وواجبه ومسؤوليته على غيره، (فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، والكرة الأرضية أمُّنا من جهة الأصل، وصلاحها واجبنا من جهة التشريع، فلماذا نُفسدها بأيدينا، وأعمالنا، وصناعاتنا وأهل الجشع والطمع فينا، فلماذا لا نأخذ على أيدي أولئك السفهاء، من أهل الجشع الذين لا ينظرون أبعد من مصالحهم الشخصية والحكومية، فإنهم أكثر الناس مدمِّرون للكرة الأرضية، بالكميات الهائلة من الغازات المنبعثة من المصانع المختلفة، والسيارات، والطائرات، والقطارات، والسفن، والصواريخ بأشكالها وأنواعها وكلها تستهلك الأكسجين وتُطلق الغازات السامة بأنواعها المختلفة حتى نعيش ظاهرة الارتفاع الحراري للأرض (الدفئية)، وما ذلك إلا نتيجة التصرفات الغير مسؤولة من قادة الدول الصناعية الكبرى في العالم.

 

الأرض لله تعالى ملكاً حقيقياً، وأصالة ودائماً، وكل ملك غيره فهو اعتباري ووكالة ومؤقتاً، وما البشر إلا مستخلفين، ومستعمرين لهذه الأرض

 

يقول سماحة السيد المرجع: “رسالة الله تتلخص بعبادة الله ثم المحبة لعباده، فإن موضوع البيئة والمخاطر التي تحيط بها هو موضوع له تداعيات تشمل كل زوايا الأرض وتحكم الحاضر والمستقبل، وتؤثر على جميع مناحي الحياة، ولذلك فإن للدِّين رؤية مهمة تخدم هذه الغاية بكل فاعلية، كيف؟

لقد خلق الله لنا عالماً سالماً نقياً رحمة منه، وحناناً من لدنه، ثم استخلفنا عليه واستحفظنا فيه وجعلنا مختارين في أفعالنا التي لها تأثيرها على الحياة سلباً أو إيجاباً، فكما يمكننا الإصلاح، يمكننا التخريب ـ لا سمح الله – وهو ما نراه هنا وهناك فكل واحد من البشر يستطيع إصلاح ما أفسده جهله أو جشعه، أو جهل الآخرين وجشعهم، فكل عمل وإن صغر وتحقيق الأمل المنشود وهو المحافظة على هذه الأرض طاهرة نقية فهو عمل مطلوب ومرغوب ومأمور به من قبل الرَّب سبحانه وتعالى، أوليس قال النبي صلى الله عليه وآله: “ما من مسلم يغرس غرساً، يأكل منه إنسان، أو دابة، أو طير، إلا أن يكتب له صدقة إلى يوم القيامة“. (مستدرك الوسائل: ج13 ص18 ح14641) .

فهذه التعاليم الدينية التي نجد قبسات منها في كل تعاليم السماء عبر كل الأديان هي بمثابة المحرك القوي لعمارة الأرض بالخير أقوى من أي محرك آخر، وفي الجانب الآخر دفع الضرر والسوء من خلال المحافظة على البيئة ولو على المستوى الشخصي يعد من أعمال البر التي حثنا ربنا عليه، وحثنا رسول الإسلام بقوله: “إِمَاطَتُكَ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ“. (بحار الأنوار: ج٧٢ ص٥٠).

فإماطة الأذى عن طريق الناس هو بمثابة الصدقة لك فكيف إذا كان العمل الكبير الذي هو المحافظة على البيئة التي تشمل كل الحياة ومناحيها، وتضم كل البشر، بكل دولهم وأشكالهم وألوانهم وأعمارهم، هذا عدا عن شركائنا في هذه الكرة الأرضية من وحوش البراري التي تنقرض، وطيور السماء التي تقل، وحيتان البحر التي تنتحر من فساد البحار ومياه المحيطات”.

وأكّد سماحته على أن واجب زعماء الدِّين التحذير من التهاون في مسؤولية الحفاظ على البيئة لما لها من انعكاس كبير على حياة البشرية في وجودهم فضلاً عن سلوكهم وأخلاقهم، قائلاً: “ففساد البيئة يعني فساد العقول، وفساد الأخلاق، وفساد المجتمع، ومن ثم انهيار الحضارة”.

مؤكداً سماحته على عدم كفاية الحلول الجزئية، بل لابد من الرجوع إلى الأسس المعبّدة للطريق في الحفاظ على البيئة ليحيى الجميع حياةً طيبة، وينعمون بالسعادة النسبية والرفاه الممكن في هذه الأرض التي مهَّدها الباري لعباده، وأوجد فيها كل ما يحتاجونه من خيرات وبركات، وما يكفيهم لأجيال، وهذا ما أكد عليه سماحة السيد المرجع في كلمته، وأننا ورثنا هذه الأرض من آبائنا نظيفة وطاهرة نقية، وعلينا أن نحافظ عليها ونورثها للأجيال الآتية سليمة نقية أيضاً.

وختم السيد المرجع المدرسي كلمته قائلاً: ” في الختام، إنني ومن جوار حرم الإمام الحسين الشهيد، ابن بنت رسول الله، الذي فدى نفسه من أجل الله واستنقاذ عباد الله، هذا المرقد الذي يقصده اليوم ما لا يقل عن عشرة ملايين من البشر، وفي أكبر تجمع إلهي قيمي في العالم – بالرغم من جائحة الوباء – وذلك لكي يُعلنوا وفائهم لقيم العدل والكرامة”.

ثم ختم السيد المرجع بهذا الدعاء الجميل: “إنني لأدعوا الله سبحانه أن ينزل على البشرية بركاته ويرفع عنا جميعاً كل ألوان البلاء من جائحة الوباء إلى خطر الحروب وسباق التسلح والإرهاب وكل لون من ألوان الكراهية بين العباد”.

فالحفاظ على هذه الأرض هي مسؤولية الجميع، وهي بالآخر ميراث الصالحين من عباد الله قال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}. (الأنبياء: 105).

نسأل الله أن يجعلنا ممَنْ يرثون الأرض مع صاحب الأمر وناموس الدهر الحجة بن الحسن المهدي الذي ادَّخره الله لأرضه وعباده ليُصلح ما أفسده الطغاة والجبارون والجشعون من أهل الفساد والإفساد في هذه الأرض، قال الإمام الجواد عليه السلام: “إن القائم منا هو المهدي الذي يجب أن يُنتظر في غيبته، ويُطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي؛ والذي بعث محمداً بالنبوة، وخصَّنا بالإمامة، أنه لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم، لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً“. (موسوعة الإمام الجواد (عليه السلام): 1 / 566).

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا