-
مقدمة تاريخية
” 14 صفر الأحزان سنة 38 كانت شهادة محمد بن أبي بكر”
التاريخ هو ذلك النهر الجاري مع الشمس ماؤه القرون والسنوات، وماؤه الليالي والأيام، وقطراته الساعات بدقائقها وثوانيها، والكل يجري معه فهو جديد ويبلي كل جديد، ولذا قيل: “الجديدان يبليان كل جديد”، فالليل والنهار يعملان بنا فيبليان الأعمار، ويقربان الآجال، فطوبى لمَنْ فقه سرَّ ذلك فعمل قبل أن يأتيه الأجل.
والتاريخ سيف قاطع لكل عذر، ولسان فاضح لكل جريمة، مهما تكتَّم عليها صاحبها، وظنَّ أنها قد كُتبت مبني للمجهول، فيأتي اليوم التي تظهر تلك الجريمة وقبحها وربما على لسان صاحبها نفسه، وما أصدق قول حكيم الشعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى:
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ ** وَإِنْ خالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
ولكن تفكير الإنسان ـ وهو المخلوق العاقل والمكلف ـ محدود، وبليد، يرتكب الجريمة ويُحاول أن يُخفيها، حتى لا يتحاسب عليها، ويظنُّ في كثير من الأحيان أنه هو المحاسِب، ورغم ذلك يُخفي جرائمه، ليظهر الوحش الذي يُخفيه بإهاب حَمَل وديع، فيما بعد على حقيقته، كحال الطغاة والجبابرة، والحكام والسلاطين، من الوحوش المفترسين الذي طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد.
حين بلغ الإمام علي، شهادة محمد بن أبي بكر، حزن وتلهّف عليه وتأسّف، وتشوّق إليه، وأثنى عليه، حيث قال: “فلقد كان إليّ حبيباً، وكان لي ربيباً”، وقال في تأبينه: “فعند الله نحتسبه ولداً ناصحاً، وعاملاً كادحاً، وسيفاً قاطعاً، وركناً دافعاً
-
معاوية والحكم الأموي
هذا الطاغية الذي نزى وقفز على الحكم والسلطة في الدولة الإسلامية بغفلة من الزمن، وسهو من الأمة الإسلامية التي غرَّر بها كلامه الناعم، وسياسته المداهنة، ودهاؤه في حكمه، وشعرته التي اقترنت بقميص عثمان الذي استخدمه خير استخدام للوصول إلى غايته في السلطة والحكم ولذا بعد عام الجماعة وصلح الإمام الحسن عليه السلام له، لم يعد لذاك القميص ذكر في التاريخ إلا كعنوان للفتنة، ووسيلة سياسية لمعاوية للوصول إلى غايته في الكرسي والحكم.
يروي ابن كثير في (البداية والنهاية): “فلما دنا (معاوية) من الدار صاحت عائشة بنت عثمان، وندبت أباها، فقال معاوية لمَنْ معه: انصرفوا إلى منازلكم فإن لي حاجة في هذه الدار، فانصرفوا ودخل، فسكَّن عائشة وأمرها بالكف، وقال لها: يا بنت أخي إن الناس أعطونا سلطاناً فأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا وباعونا هذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا شحوا على حقهم ومع كل إنسان منهم شيعة، وهو يرى مكان شيعتهم، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندرى أ تكون لنا الدائرة أم علينا؟ وأن تكوني ابنة عثمان أمير (المواطنين) خير من أن تكوني أمة من إماء المسلمين ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك”. (البداية والنهاية: ج8 ص132).
والعجيب أنه ينقل بعده مباشرة حديث رسول الله صلى الله عليه وآله: “إذا رأيتم معاوية على منبر فاقتلوه“، ثم رواية جابر عن النبي الأكرم: “إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه“، ويُضعفهما لعدم عمل الصحابة بمقتضاهما، ولم يدرِ الرجل أن فرخ هند الهنود يُسمونه من الصحابة، والذي ولاه على الشام وأطلق يده فيها كيف يشاء ولا يسأله عن شيء كان يقول له: “دعوا فتى قريش وابن سيّدها”.. ويقول له: “لا آمرك ولا أنهاك”، ويقول عنه: “هذا كسرى العرب”. (البداية والنهاية: ج8 ص124).
فإذا كان هذا حال الرجل عند الخليفة فمَنْ يستطيع أن يُحاسبه، وكم اعترض عليه الصحابة في الخمر، والتكبُّر، والتجبُّر على عباد الله، فعن أيِّ صحابة كان يتحدَّث وكان منهم آلاف يُقاتلونه مع أمير المؤمنين، عليه السلام في يوم صفين، كسيدنا عمَّار الذي كانوا جميعهم يحفظون حديث رسول الله فيه بقوله: “عمار تقتله الفئة الباغية“، فضحك معاوية على ذقونهم بقوله: (قتله الذي جاء به).
ويصف السيد المرجع السيد المدرسي (حفظه الله) الموقف في صفين، فيقول: “كانت التعبئة الروحية، أعظم قوة اعتمد عليها جيش الرسالة، وبالرغم من أنها صنعت بطولات نادرة، إلَّا أن حجمها كان دون مستوى النصر النهائي، فلما استمرت الحرب طويلًا بدأ المتخاذلون يتنامون في صفوف الجيش الرسالي، أمَّا معاوية الذي لم يتورع عن التوسل بأية طريقة مهينة لنيل النصر، فقد عرف كيف يستفيد من الصعوبات التي ازدادت في صفوف جيش الإمام، لم تكن أكثرية الجيش عند الإمام في مستوى فهم الصراع الرِّسالي- الجاهلي، وإن الذي يطَّلع على تاريخ صفّين يتمزَّق ألمًا، كيف كانت حِيَل معاوية تنطلي عليهم، وكيف كان الإمام يستخدم براعته وبلاغته، وقوة شخصيته، وحضوره الدائم عند كل حادثة، بل وجولاته الحربية المباشرة، لكي يُفشل خطط معاوية الماكرة. (الإمام علي قدوة وأسوة: ص114).
ثقافة بني أمية، وأمهم هند الهنود آكلة الأكباد حيث فعلت بجسد سيدنا الحمزة ما فعلت، هي وزوجها أبو سفيان، تلك هي ثقافتهم التي سارت عليها قطعان الظلم والظلام الصهيووهابية التكفيرة في هذا العصر في العراق وسوريا ولبنان
ومن أعظم جرائم ذاك الطاغية الباغية معاوية الداهية هي اغتيال القادة، وكبار الأصحاب المخلصين لأمير المؤمنين عليه السلام في حياته، ودولته، ومن أولئك كان الأشتر النخعي الذي يصفه أمير المؤمنين، عليه السلام بقوله: “كان لي كما كنتُ لرسول الله“، حيث اغتاله بالسُّم حين ولاه على مصر بعد اضطرابها على واليه عليها محمد بن أبي بكر، وقال في ذلك: “إن لله جنوداً من عسل”، ثم سجد للشيطان شكراً على مقتل هذا الرجل والقائد الكبير الذي كان يعتبره بمثابة الجناح لأمير المؤمنين.
ومعاوية أقبل يقول لأهل الشام: “أيها الناس إن علياً قد وجه الأشتر إلى مصر فدعوا الله أن يكفيكم فكانوا يدعون عليه في دبر كل صلاة وأقبل الذي سقاه السم إلى معاوية فأخبره بهلاك الأشتر فقام معاوية خطيباً، فقال: “أما بعد فإنه كان لعلي بن أبي طالب يدان يمينان فقُطعت إحداهما يوم صفين وهو عمار بن ياسر، وقد قُطعت الأخرى اليوم وهو مالك الأشتر”.
هكذا كان يضحك على أهل الشام ويُصدقونه ويُطيعونه وهو يعصي الله بكل ما استطاع في الأمة وفيهم، وهم أداته، وجنوده، وشركاءه في كل معاصيه، وأصحاب أمير المؤمنين، عليه السلام، يُطيع الله في كل صغيرة وكبيرة، وهم يعصونه في كل أمر صغير أو خطير، وهذا من أعجب العجب.
-
الشهيد محمد بن أبي بكر
هذا الوردة التي أخذت النجابة من أمها أسماء بنت عميس الخثعمي، التي كانت تحت سيدنا جعفر بن أبي طالب (الشهيد الطيار)، وبعد شهادته تزوجها عبد الله بن أبي قحافة (أبو بكر)، فولدت له محمدا،ً ورسول الله، صلى الله عليه وآله، في الطريق إلى حجة الوداع، بذي الحليفة، أو الشجرة، ولما قضى نحبه وهلك عنها تزوجها أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب، وربَّى ولدها مع أولاده، وكان يعتبره ولداً من أولاده أيضاً، فحين بلغه شهادته، حزن وتلهّف عليه وتأسّف، وتشوّق إليه، وأثنى عليه، حيث قال: “فلقد كان إليّ حبيباً، وكان لي ربيباً“، وقال في تأبينه: “فعند الله نحتسبه ولداً ناصحاً، وعاملاً كادحاً، وسيفاً قاطعاً، وركناً دافعاً“، وروي أن أمير المؤمنين جزع وظهر عليه ذلك حين بلغه شهادة محمد بتلك الطريقة المفجعة فقيل له عليه السلام: “لقد جزعتَ على محمّد بن أبي بكر جزعاً شديداً يا أمير المؤمنين؟ قال: وما يمنعني! إنّه كان لي ربيباً، وكان لبنيَّ أخاً، وكنتُ له والداً، أعدّه ولداً“.
قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: “كان محمّد ربيبه وخرّيجه، وجارياً عنده مجرى أولاده، رضع الولاء والتشيّع مُذ زمن الصبا، فنشأ عليه، فلم يكن يعرف له أباً غير عليّ، ولا يعتقد لأحدٍ فضيلة غيره، حتى قال عليّعليه السلام: “محمّد ابني من صلب أبي بكر“.
وقال عنه ابن الأثير في أُسد الغابة: تزوّج عليّ بأُمّه أسماء بنت عُميس بعد وفاة أبي بكر، وكان أبو بكر تزوّجها بعد قتل جعفر بن أبي طالب، وكان ربيبه في حِجْره، وشهد مع عليّ الجمل، وكان على الرجّالة، وشهد معه صفّين، ثمّ ولّاه مصر فقُتل بها”.
نعم؛ كان من كبار القادة إلى جانب الإمامين الهمامين الحسن والحسين عليهما السلام، في حروب أمير المؤمنين وفي الجمل وحيث الإمام الحسن عَقَرَ الجمل ثم أمره أمير المؤمنين أن يتولَّى أمر أخته راكبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب، حيث أسرع محمّد بن أبي بكر فقطع بطنان الهودج، واطّلع على الهودج، فقالت عائشة: مَنْ أنتَ؟ فقال: “أبغض أهلك إليك“.
ولكن لماذا يُقتل هذا الرجل القائد والمخلص من قبل عمرو بن العاص، بأمر من معاوية، ولماذا يُحرق في جيفة حمار كما يَحكي التاريخ؟ فمن أين كل هذا التفنن في المُثلة بالقتلى؟
إنه من ثقافة بني أمية، وأمهم هند الهنود آكلة الأكباد حيث فعلت بجسد سيدنا الحمزة ما فعلت، هي وزوجها أبو سفيان، تلك هي ثقافتهم التي سارت عليها قطعان الظلم والظلام الصهيووهابية التكفيرة في هذا العصر في العراق وسوريا ولبنان وغيرها من البلدان، التي ابتُليت بهؤلاء المجرمين الذين تشرَّبوا الفكر الأموي، ورضعوا الفكر الوهابي مع ما غذَّتهم الأيدي الآثمة لمجرمي الحضارة الرقمية من رعاة البقر الأمريكية، حيث نشؤوا على الدِّماء والأشلاء والإبادة الجماعية للهنود.
فالفكر الداعشي نشأ من هناك وعاش وترعرع في ظل رعاة البقر، وتدرَّب عند البلاك ووتر، فجاء نسخة عجيبة غريبة من الإجرام الذي لم يشهده التاريخ، حيث يتفننون باستخدام أحدث الكامرات، والمخرجين، لإخراج الأفلام على الطريقة الهوليودية، وتُسوِّقها لهم الامبرطوريات الاعلامية بنفس الطريق الأمريكية، فهؤلاء جميعاً من أبناء مدرسة بني أمية المجرمة، والتاريخ ملئ بجرائمهم وكربلاء خير شاهد.