أدب

المعاناة مصنع التحولات الكبرى* [5]

المعاناة: يا لها من عمارة يبنيها الانسان من كل ضجيج يصخب به من نفسه وفي نفسه . إنها المعاناة التي يبنيها هذا الانسان لتعود ـ هي ـ فتبنيه بالحجارة ذاتها التي بناها ـ هو ـ بها. أما الحجارة فهي التي تكون قد  انرصَّت بها نفسه، وروحه، وذاته، مما اختلط فيها وتجمع إليها من غبار الأيام وهي تتزاحم ـ بقوافلها ـ عابرة من قطب الى قطب في وجوده الإنساني الصامد في صدر الحياة . سيكون من هذا الغبار تأليف المقالع المقطوعة منها حجارة العمارة التي اسميها الآن، عمارة المعاناة.

والمعاناة : ـ بمعناها المجازي هذا ـ تفسرها الحقيقة، بأنها الخبرة الطويلة التي يتمرس بهاك الانسان عبر تطوره في مجتمعاته الإنسانية، ليكون له التحقيق المتطوّر نتيجة حتمية لكل ما عاناه في رحلاتها المتمادية في حضن الكون ـ إنّ المعاناة التاريخية الطويلة هي التي تبني هذا الانسان المحقق لذاته بذاته ، وهي التي تكيّف روحه، وعقله، وفكره، وكل المُثُل التي يجنيها لتكون عماده الصحيح المعبر عنه في البحث، والبناء، والسعي إلى حقيقته المتكاملة.

والمعاناة: ـ بمعنى واحد ـ هي التي تصيب دائما في وجود الانسان، وهي التي تحدد حاجته، أو بالأحرى مجاعته الى ما ينقصه في مشتهاه، وهي التي تدله الى هذا المشتهى، وهي التي تعيّن له ـ في ما بعد ـ هل هو المشتهى الجميل المحيي، أم أنه المشتهى الخاطئ المميت؟ ألا أنه يبقى ـ في كلا الحالين ـ تعييناً هزته المعاناة المتولّدة في النفس، وحرَّكت إليه

أما المعاناة الكبيرة التي تتولد في النفس وتبنيها بناءاً كبيراً فهي لا تزال من الصنف الفريد، ولا يتعزز وجودها ويتعين إلا في تفاوت نسبي يلمح في المجتمعات المتطورة والمنقَّحة بالعلم والفهم المنعكسين حضارة وثقافة ـ هنالك يكون للعقل يد، وللروح ملامس ـ ولا يكون مجال التعبير عنها إلا في احترام الانسان لذاته الجملية ـ وعندئذ فإن المجتمع هو الكريم، والعدل والحق والمساواة، هي دروسه في الحقوق والموجبات، والصدق والنزاهة ونظافة الكف، هي كلها صفاتها في البروز الصحيح، واقتصاده المبني والمعني والشبعان ـ مع العفة في جني الثمر ـ هي نهجه في الزرع، وفي عمليات الحصاد. أما المجتمع الذي يبنيه انساناً عظيماً يدور في حضن الحياة مجلَّلاً بالقيمة وعزَّة النفس، فهو مدارة الفخم الذي يرد إليه ـ من معاناته ـ شعوراً ضمنياً بأن الجمال هو متعة النفس الكريمة التي يتعزز بها وجود الأنسان، بنعمة وعظمة الحق والصدق المغروسين في جنان الانسان.

والمعاناة في الطبيعة: إنما هي عنصر من عناصرها الجامعة، ونبرة من نبراتها المعبِّرة في خنوعها، فجموحها، فبروزها في ثورة من ثوراتها التي تتنفس بها حتى تعود فتعتدل وتستقر في بروز جديد تتولد منه حوملة أخرى يتألف منها مدار يعينه شوق آخر من الأشواق التي يزخر بها فن الحياة ـ كل هذا إنما هو موزّع في الوجود، أكان في الإنسان، أم في الحيوان، أم في النبات، أم حتى ما يسمى جماداً ـ كأن المعاناة هي التي تلمح كل شيء حتى تطوره وتخلق منه الحالة الأخرى التي تشتاق إليها الحالة الأولى التي هي حلقة منها في سلسلة الوجود. أليست هذه كلها هي أيضا لعبة الحياة في البقاء وتعلقها ـ أبداًـ بالتطور الذي هو تحوّل يتلوّن به جوهر الحياة في وجودها الأفسح؟

والإمام الحسين، عليه السلام مر بمعاناة عظمية، منذ الطفولة، وراحت تتجسد وتتجسم فيه عبر مراحل الفتوة والرشد، وعبر بلوغه مرحلة سديدة من مراحل التعمق الفكري ـ النفسي ـ الروحي التي زجَّته فيها ظروف قاهرة، ما انفكت تعمق بصماتها عليه، فلنتبصَّر هذه الأمور كلها في خط المعاناة، ولنعمد الى تبويبها هكذا:

 

1ـ خط الطفولة:

ولقد كانت للطفولة على الإمام الحسين عليه السلام، خيوط لذيذة من المعاناة، حوشت منها نفسه كل البطانات التي راحت تتلون بها أيامه الطالعة. ما من لمسة غنج تدلّع بها في محيطه البيتي المشبع بالحب والحنان، إلا وتركت عليه بهجة من البهجات المترفة، كانت تشع بها عيناه، وكل أساريره الهانئة بغبطتها ـ لقد مرَّ بنا كل ذلك ونحن نستعرضها في كل ما تخصص لها من مناسبة وحين، لقد كان لكل هاتيك البهجات تأثير وسّع نفسه المعانية على فهم كان يزداد بها وهي تتحول فيه الى معاناة أخرى كان يولدها ازدياد الفهم مع وضوح التحليل والتعليل.

 

كان الطفل الحسين، عليه السلام ـ وأظنه كان في الخامسة من العمر، أو ما يزيد قليلاً ـ يلعب في باحة الدار في ظل شجرة الأراك، مع صبي آخر من صبية الحي ـ قال الإمام الحسين عليه السلام وهو يتباهى:

الإمام الحسين عليه السلام: جدّي أنا هو الرسول ـ وأنت مَن هو جدك؟

الصبي: ـ وجدي أنا هو الرسول ـ أمس دلتني إليه أمي عندما كان متوجها الى ساحة المسجد.

وحاول الإمام الحسين عليه السلام، أن يعترض بعد أن وسّع فتحة عينيه، وبدا عليه بعض الغضب ـ ولكنه سمع أمه فاطمة عليها السلام، تناديه وكانت تراقبهما يلعبان وهي واقفة على الباب ـ وبلحظتين كان الحسين بين يديها ـ قالت :

فاطمة عليه السلام:  ـ معه حق يا حسين ـ جدك الرسول هو جد كل صبيان المدينة ـ إفهم عليَّ ـ وإنه جد كل صبيان الجزيرة ـ أتفهم عليَّ؟ جدك رسول السماء لكل أهل الأرض، يا حسين يا ولدي، أتفهم عليَّ؟ أظن أن جدك لا يقبل أن تملكه وحدك يا حسين ـ وهكذا تكبر أنت يا ولدي، ويكبر معك كل إخوتك في كل المدنة، وفي كل الجزيرة التي هي لنا على السواء ـ أفهمت عليَّ ما أقصد يا حسين؟

 

وسرت على وجه الإمام الحسين عليه السلام، بهجة مقطوفة من ثغر أمه وهي تذغدغ وجنتيه بقبلة مسحوبة سحبا ناعما من بين ضلوعها ـ رد لها مثلها، ولوى قافزا نحو رفيقه المتهلل برجوعه ـ لقد هفا إليه، وقبّله وهو يلتفت صوب أمه، وكأنه يخبرها أنه فهم مليا ما فاهت به بفمها الطاهر.

بعد خمس دقائق بالضبط ـ ولا تزال الأم فاطمة، عليها السلام، تسهر بعينيها على الصبيَين اللاعبين في ظل الشجرة ـ وفد الحسن عليه السلام ليشترك معهما باللعبة المرحة ـ فأخذه الحسين عليه السلام ليسرَّ إليه بحديث أمه ـ وما أن أدرك الحسن المغزى الجميل حتى تهلل فرحا وهو يلتفت صوب الباب، فوجد أمه مسرعة إليهم وكل بهجات الدنيا في محياها ـ وما أن وصلت حتى أخذت الثبيان الثلاثة إلى عبها وهي ـ من فرح ـ تبكي.

وعند المساء ـ ما كاد الإمام علي عليه السلام، يطأ عتبة البيت، حتى هبَّ الإمام الحسين عليه السلام إليه، قافزا بين ذراعيه وهو يقول:

 

الإمام الحسين:  ـ عندي ما أقوله لك.

الإمام علي: ـ وما عندك يا حسين؟

الإمام الحسين: ـ قالت لي أمي فاطمة أن جدي هو جد كل صبيان الجزيرة ـ وأنت

ألست أباً للجميع؟

الإمام علي: ـ وأنا كذلك يا حسين ـ ألم تسمع جدُك يقول: أنا وعلي أبوا هذه الأمة؟

الإمام الحسين: ـ وأنا واخي الحسن يا أبي ـ كيف سنكون؟

الإمام علي: ـ ألم تسمع أيضا جدك يقول: هذان ابناي ـ إنهما إمامان قاما أم قعدا وهما سيدان من أسياد الجنة؟

الإمام الحسين: ـ وكيف نكون إمامين وسيدين؟

الإمام علي: ـ وسوف يقول لك الغد يا بني كيف يكون ذلك ـ ألا تصبر يا ولدي إلى الغد؟

أما الإمام الحسين عليه السلام، في تلك الليلة وفي عبِّه تسرح أحلام نابتة من اللغز وهو يبسم لها ويترنًّح، أما جدُّه، صلى الله عليه وآله، وأبوه عليه السلام، فإنه كان يشاهدها فوق حصانين أبيضين يصهلان فوق، قرب نجمة الصبح.

بعد سنتين وعدة أشهر ـ كان جده قد أغمض عينيه عن المسجد، وعن صبيان كل الجزيرة ـ عاد الإمام الحسين، عليه السلام فاخلتى بأبيه يوشوشه، والحزن يشرب من عينيه.

الإمام الحسين: ـ أيكون أبو بكر لهذه الأمة، ولا تكون أنت يا أبي بعد جدي

الذي غاب وترك الابوَّة لك؟!

الإمام علي: ـ أبو بكر أب بالحمية القبلية لا بالوصية النبوية! صلى الله على جدك

ـ يا بني ـ وسلم.

قال الإمام ذلك وهو يتمشى في باحة البيت، دون أن يلتفت صوب الإمام الحسين، عليه السلام، ليتبين وقع كلماته عليه ـ ولما وصل البيت، وابنه الحسين يسحب نفسه كثيبا خلف خطواته، كانت فاطمة عليها السلام قابعة في الزاية ينهكها الحزن ويدعك عينيها الدم ـ ولكنها انتفضت عندما وقعت عينها على الحسين وهو يقفز خطوات أبيه منكسا رأسه، كأنه فرخ باز هبط من عشه الى الارض ـ وسريعا ما تلفعت بمخمارها وقفزت الى الخارج صوب ساحة المسجد.

وعندما كان صوتها الخافت يقرع أذني أبي بكر بذلك الخطاب الذي كانت ترتجف فيه ثورة ما حسبها التاريخ إلا فاعلة ـ كان الإمام الحسين عليه السلام، لاصقا بها من الخلف، وهو يسجل في نفسه نبراتها المتأودة بالعظمة ذاتها التي كانت تسرح فوق جبين جده، صلى الله عليه وآله، وهو يعلّم الناس في المسجد ذاته، كيف يعتزون بالصدق والحق، وكيف يكونون ضلوع أمة عظيمة هم أبناؤها، وهو أبوهم الذي يجمعهم الى مراحل المجد ـ وعندما انسحبت من ساحة المسجد راجعة الى البيت، اوقفها الحسين على العتبة حتى يغمر جيدها بذراعين من لطف، ويلثمه بثغر من عطر الزهر وهو يقول:

ـ صوتك صوت جدي يا أمي ـ طاب صوتك في كل صبح، وفي كل مساء.

فأجابته، وهي تنعس نعاسا ذائبا في مقاطع الكلمات:

ـ ياحلمي .. وحلم جدك وأبيك.. ما أشد خوفي عليك وأنا أطالب لك.. بروعة الميراث.

ولكن الإمام الحسين، عليه السلام، وهو ما انفك يعانقها، ويعاني من وقع ولوج صوتها الى العميق من أذنيه، حتى أحس انها تهبط أمامه على العتبة، كأنها الخيطان تتراخى عن المغزل، ولكن الأب الكبير ـ وهو الآن الإمام علي عليه السلام ـ كان يلف بين ذراعيه الأعصاب المنهارة عن مغزلها، ويحملها الى الفراش الذي أسرعت الى ترتيبه أسماء بنت عميس ـ لقد شاهت الحسين ـ على مدى يومين ـ كيف كانت تبسم أمه فاطمة عليها السلام، وهي تلاقي أباها في غفوة الموت!

لم تختتم ـ بانتقال أمه الى حضن أبيها ـ طفولة الحسين، ولكنها وسَّعت انتقاله الى الرشد الباكر والمطَّلع على واقع الامور ومزاجها الملفوف بالرموز ـ لقد راحت تتطور المعاناة في حياكة نفسه على ضوء ما كان يفسره له فهمه النبيه وإدراكه المتوسع ـ إلا أن موت أبي بكر، هو الذي كان خاتمة طفولته التي شاهدت انتقال الولاية الى عمر بن الخطاب ..

——————–

  • مقتبس من ـ كتاب الإمام الحسين في حلة البرفيرـ لسليمان كتاني

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا