بين اليوم العاشر من شهر محرم الحرام من عام 61 للهجرة و بين اليوم العشرين من شهر صفر الحرام من العام ذاته، أربعون يوماً بالتمام؛ وكذا المسافة ذاتها في كل عام.
إن أربعين يوماً لا شيء في حساب الزمن؛ إلا أن هذه المسافة الزمنية، تحديدا، كانت كل شيء.
فقد كانت كل شيء؛ لأنها أيقظت الأمة من سبات عميق كاد يودي بها إلى الجاهلية الأولى، وربما إلى أسوأ منها.
وكانت كل شيء؛ لأنها أعادت الأمة إلى قيادتها الربانية الإلهية الحقة، والتي تمثلت، في ذلك التاريخ، في شخص الإمام الحسين، عليه السلام، ثالث الأئمة الأطهار، عليهم السلام، حسب المراتب التي رتبهم الله – تعالى – فيها.
وكانت كل شيء؛ لأنهاعرَّت يزيد بن معاوية وأركان حكمه الذين اغتصبوا الخلافة، وحكموا بالحديد والنار وحرفوا القرآن الكريم، وزيفوا الحديث الشريف، وقتلوا العترة الطاهرة، عليهم السلام، وعاثوا الفساد في طول البلاد الإسلامية وعرضها.
وكانت كل شيء؛ لأنها وضعت الأساس لكل الثورات والنهضات التي جاءت في الأزمنة اللاحقة، والتي كانت تسعى لإعادة الأمة إلى مسار قيادتها الصحيحة، بعد الانحرافات التي كانت تعتريها، بين الفينة والأخرى، بفعل الماكنة الإعلامية، والدعم المالي من لدن أدعياء الإمامة والخلافة والقيادة.
وكانت كل شيء؛ لأنها فتحت الطريق، وجعلته سالكاً، أمام إرادة الأمة التي تجاهد في سبيل الله والحق والحرية، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها بظهور مهديها؛ الإمام المنتظر، عجل الله فرجه الشريف.
وفي هذه المسافة الزمنية القصيرة جداً، كثيرة هي المواقف كما هي كثيرة هي المصائب.
ومن تلك المواقف، وما أكثرها! موقف الحوراء زينب، سلام الله عليها، في أول لقاء لها مع أخيها الإمام الحسين، عليه السلام، وهو جسد بلا رأس؛ هنا في أرض كربلاء البطولة والفداء.
فقد انحدرت من التل، الذي سمي باسمها في ما بعد، إلى مصرع الإمام،عليه السلام، ووضعت يديها تحت ذلك الجسد الطاهر المبضع، وتوجهت نحو السماء وقالت:
«اللهم تقبل منا هذا القربان».
نعم؛ لقد حولت، عليها السلام،هذا الموقف الرهيب إلى محراب للدعاء والابتهال؛ فقالت: «اللهم»؛ أي:يا الله؛ ثم قالت: «تقبل»، وهذا فعل أمر يراد به الدعاء والتوسل؛ ثم قالت: «منا» بصيغة الجمع؛ أي: إن هذا القربان هو قربان أهل البيت، عليهم السلام، وهو -أيضا- قربان جميع الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين؛ ثم قالت: «هذا»؛ أي: بهذا الوضع وهو جسد مقطع بالسيوف، مقطوع الرأس، مسلوب العمامة والرداء؛ ثم قالت: «القربان»، ولم تقل: هذا الحسين، أو هذا الشهيد، مثلاً، لتدلل على أن هذا الشهيد أقرب المقربين إلى مقام رضا الله – تعالى -.
وفي كل هذه الكلمات النورانية المدوية لا نشم أية رائحة للذل، أو المهانة، أو الإستكانة، أو التنازل، أو الضعف؛ ونحوها.
وفي العشرين من شهر صفر من ذلك العام، علا هذا الصوت من جديد عندما روى الإمام المعصوم، وهو زين العابدين، عليه السلام، تفاصيل ما جرى في يوم عاشوراء للصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري؛ ليصل هذا الصوت الهادر إلى العالم أجمع منذ ذلك الزمان.