حدیث الناس

ثوار تشرين وإطلالة على مسيرة عاشوراء

فكرت في الكتابة عن موكب “ثوار تشرين” الذي دخل حرم الامام الحسين في إحدى ليالي عاشوراء ضمن المواكب الحسينية، وهم يرددون شعارات بدلالات سياسية، ثم رفع أحد الشباب صورة “صفاء السراي”، الشاب الذي قتل خلال المواجهات التي وقعت في مطلع هذا العام في بغداد بين المتظاهرين وقوات “مكافحة الشغب”، ثم عزفت عن قراري بعد أخذ الحدث منحى عاطفياً بامتياز، بين معترض على رفع صورة شاب يعدونه غير مؤمن؛ لا بالامام الحسين، ولا حتى بالخالق المتعال، وكتبوا على مواقع التواصل الاجتماعي، عن كيفية رفع صورة “شارب الخمر ومنكر وجود الله في حرم الامام الحسين الذي استشهد في سبيل الله”، في المقابل تحدث آخرين عن حقهم في المقارنة بين تضحيات شهداء الطف وتضحيات الشباب في ساحة التحرير ببغداد ومدن عدة في الوسط والجنوب شهدت أعمال احتجاج ضد فساد النظام الحاكم، وفشله في تحقيق ما وعده منذ ولادته الديمقراطية بأنه يوفر الحياة الكريمة للناس بشكل عام، وشريحة الشباب بشكل خاص.
ولكن؛ عندما وجدت العواطف تخرج من اطارها وتؤثر على العقول، صار لزاماً التفريق بين ما هو عاطفي يحركه الحماس والانفعال، وبين ما ينتمي الى العقل والحكمة والموعظة الحسنة ليكون الاثنان في خط واحد كل واحد يعمل في مجاله باتجاه هدف واحد وهو إحياء القضية الحسينية.

يعتقد المحبون والموالون للإمام الحسين، عليه السلام، أن مواساتهم بمختلف الاشكال، والتهاب مشاعرهم إزاء المصاب الجلل، تخولهم لأن يختزلوا القضية برمتها في منظومتهم الفكرية والثقافية


1– يعتقد المحبون والموالون للإمام الحسين، عليه السلام، أن مواساتهم بمختلف الاشكال، والتهاب مشاعرهم إزاء المصاب الجلل، تخولهم لأن يختزلوا القضية برمتها في منظومتهم الفكرية والثقافية، و ربما يكونوا معذورين من حيث النتيجة عندما يجعلوا عاشوارء مرآة ناصعة لضمائرهم وشخصيتهم، فأي مساس بهذه القضية يعني مساساً بشخصيتهم وبمشاعرهم، وهذه تبدو مسألة طبيعية في النفس البشرية، فاذا أحبّ الانسان شيئاً الى درجة كبيرة، ليس فقط من الصعب الانفصال عنه، بل ويجد انه مندمج مع ذلك الشيء الى حد الذوبان.
هذه النتيجة التي نراها طبيعية من الناحية النفسية، نجد أنها لا تنسجم مع مبادئ وقيم النهضة الحسينية التي تمثل نهراً جارياً ومسيرة مستمرة منذ حوالي اربعة عشر قرناً من الزمن، فكما وصلت الينا اليوم، فقد وصلت الى من كان قبلنا قبل مائة عام، ومن كان قبلهم بمائتي عام وهكذا، وقد اغترف الملايين من هذا النهر، كلٌ حسب فهمه للقضية، وحسب سعة وعيه، وصفاء سريرته، كان من هؤلاء؛ الملك، والضابط، والشرطي، والتاجر، والعالم، والأديب، مع مختلف شرائح المجتمع ومن مختلف الانتماءات الدينية والعرقية والقومية، ولم يكن هؤلاء باجمعهم، حسينيون، بل كان بعضهم بعيداً عن هذه الاجواء، وربما منكر لرسالات السماء، ولرب السماء ايضاً! ولكن!
احتواء القضية الحسينية للجانب الانساني مع الجانب الديني، جعلها واحة مفتوحة لكل سكان العالم، فاذا كان جدّه المصطفى رحمة للعالمين، فانه “مصباح هدى وسفينة نجاة”، فبعد الرحمة الالهية والاستقرار والسلام، لابد من فنار ومسار ومنهج ونظام للحياة، وكم سجل التاريخ افراد اهتدوا الى هذا المصباح والى هذه السفينة من غير المسلمين، ومن غير اتباع أهل البيت، الذين وجدوا في عاشوراء إحياءً لقيم السماء، وصورة ناصعة ومتكاملة للدين القويم الذي جاء به جدّه المصطفى.

احتواء القضية الحسينية للجانب الانساني مع الجانب الديني، جعلها واحة مفتوحة لكل سكان العالم، فاذا كان جدّه المصطفى رحمة للعالمين، فانه “مصباح هدى وسفينة نجاة”


2– يجب أن نتذكر أن أمثال صفاء السراي –بكل ما قيل فيه- ليسوا بالقليل في المجتمع، فثمة الكثير من الافراد في مجتمعنا العراقي، وايضاً في المجتمعات الاسلامية ممن يمثلون افرازاً للظروف السياسية والاجتماعية والثقافية، لذا نجد احصائيات التراجع عن حالة “التديّن” تسجل ارقاماً لا يستهان بها، علماً أن الاحصائيات المعدة من قبل مؤسسات ابحاث ودراسات هدفها إحصاء الثغرات في البلاد الاسلامية المصرّة على تطبيق الاحكام والقوانين الاسلامية، تغضّ النظر عن مستوى قناعة هؤلاء “غير المتدينين” بالافكار البديلة، فمعظم هؤلاء بعد لم يقرأوا الافكار التي تعرفوا عليها نظرياً من أمهات الكتب والمصادر، وإنما عرفوها شفهياً من بعض النشريات، وسمعوا شيئاً من الدورات هنا وهناك استشعروا من خلالها بأن شخصيتهم الضائعة وكرامتهم المسحوقة يمكن ان يجدوها في ثنايا هذه الافكار، ومن أبرز القيم اللامعة التي تأسر عقولهم؛ الحرية، والكرامة الانسانية، وهكذا نشهد في بعض المواكب حضوراً ملحوظاً لشريحة الشباب الى جانب كبار السن رغم عدم التزام البعض بالفرائض الدينية.
هذا الحماس والاندفاع –بغض النظر عن الاهداف والغايات ومن يقف خلف هذه المواكب- تمثل فرصة لاكتشاف المزيد من امثال صفاء السراي ممن يشكك بالدين والاحكام الاسلامية، وايضاً بوجود الخالق سبحانه وتعالى لما يعانيه من ضنك العيش، وتمييز، وحرمان بسبب فساد الحكام، ولكن الفرق أن هذا التشكيك لا يخرج الى العلن، بل يبقى حبيس القلب خلف جدار الصمت، فإن لم تكن الفرصة لتغيير النظام السياسي من الفساد واللصوصية الى الصلاح والفضيلة، فبالامكان إزالة ما يتركه هذا الفساد من شوائب و ادران عن صورة النظام الاسلامي في الحياة، والاجابة عن جميع الاسئلة المتعلقة بالعقيدة والفكر لتكون الثقافة الصحيحة والاصيلة طريقاً لهؤلاء الشباب وغيرهم نحو التغيير الحقيقي لذلك الفساد، لأن الامام الحسين أراد تحقيق الحرية والكرامة الانسانية وسائر قيم الحق من خلال الالتزام بهذه القيم، وليس اللجوء الى الباطل وانتهاج اسلوب التمرّد والتشكيك والجدل على طول الخط.

3– هذه القضية تدعونا –اليوم قبل أي يوم آخر- الى تجاوز حالة الانفعال الى الابد، و الاخذ بزمام المبادرة في الساحة من خلال تحقيق أقصى درجات ضبط النفس والاعصاب، والتحلّي بالحكمة والموعظة الحسنة، فمن المعروف عن الشيعة في تقييم العلماء والمفكرين في العالم، انهم يمتلكون نقاط قوة وعوامل نمو وانتشار مذهلين في العالم، مثل؛ الاكتفاء الذاتي اقتصادياً وعدم التبعية للانظمة السياسية الحاكمة، و وجود مرجعية دينية واحدة تقود المجتمع، والأهم من كل هذا تراث حضاري عظيم يتضمن أنظمة تربوية ومناهج علمية وأحكام دينية تنسجم كاملة مع العقل والفطرة.
نعم؛ نحن نفتخر بسجل مشرّف من المواقف والنشاطات العظيمة التي قام بها العلماء والخطباء والادباء والشريحة الواعية في المجتمع في التصدّي بحزم للافكار الدخيلة على المجتمع العراقي طيلة حوالي خمسين عاماً، وتحديداً منذ انتشار الفكر الماركسي بشكل عنيف بعد انقلاب عام 1958، فقد كتب العلماء، وكشف الخطباء، وبذل الشباب المؤمن حينها جهوداً جبارة لإظهار كذب وخداع تلك الافكار الى الناس، وهذا يدعونا لأن نحول هذا السجل الفاخر، والتضحيات الجسام، الى مدرسة متجددة للإصلاح وبناء الانسان، وتحقيق اهدافه وغاياته المشروعة.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا