تدبرات في سورة (إبراهيم) شهر رمضان المبارك / 1441 هـ – (الدرس الثامن عشر)
بِوادٍ غَيْرِ ذي زَرْعٍ
بسم الله الرحمن الرحيم
[وَ إِذْ قالَ إِبْراهيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْني وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35)رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَني فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصاني فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحيمٌ (36)رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتي بِوادٍ غَيْرِ ذي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] (37)
من النِعم العظيمة التي منّ ربّنا سبحانه وتعالى بها على البشر هو وجود الأنبياء والأولياء، وهو مصداق لقوله سبحانه: [وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها] لما فيها من أبعاد مختلفة منها:
أولا:ً إنّ الأنبياء وسائط للفيض الإلهي نتوسّل بهم الى الرب سبحانه وتعالى، أمّا المنافقون اذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله يلوون رؤوسهم لما في داخلهم من الكِبر والغرور.
ثانياً: اتّخاذهم قدوات في حياتنا، كما قال ربّنا تعالى: [لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ، وباتباع نهجهم يصل البشر الى الدرجات العليا كالحواريين من أصحابهم، ومن هنا تجد ذكر الأنبياء المتكرر في الآيات القرآنية وذكر تضحياتهم وسيرتهم، وسمات شخصيتهم العظيمة، كلّ ذلك لكي يمشي الانسان على خُطاهم ويتّخذ من سيرتهم مناراً لحياته.
النبي ابراهيم عليه السلام الذي سُميّت هذه السورة بإسمه المُبارك هو أيضاً قدوة للمؤمنين كما قال ربّنا:
[قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْراهيمَ]
الامتحان بالأهل والولد
لم تحمل زوجة ابراهيم سارة بعد سنوات طويلة من زواجها بإبراهيم عليه السلام، فوهبت له جاريتها ليستولدها، وهكذا رزق الرب سبحانه وتعالى خليله ابراهيم بولده إسماعيل من هاجر.
جاء في بعض التفاسير أنّ الرب سبحانه وتعالى أمر ابراهيم بالهجرة الى مكّة بعد طلب زوجته سارة ذلك حيث اغتمّت لعدم حصولها على الولد.
وكلّما مرّ الى أرضٍ خضرة سئل جبرئيل عن الأرض هل هي التي سينزل عندها؟ الّا أنّ الجواب كان بالنفي حتّى جاء الى مكّة حيث كما قال ربّنا: [رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتي بِوادٍ غَيْرِ ذي زَرْع]
لم يمكث ابراهيم عندهم طويلاً حيثُ أمره الرب سبحانه أن يعود الى الشام، وحين أراد الإنصراف قَالَتْ لَهُ هَاجَرُ يَا إِبْرَاهِيمُ لِمَ تَدَعُنَا فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ أَنِيسٌ وَ لَا مَاءٌ وَ لَا زَرْع..
«فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الَّذِي أَمَرَنِي أَنْ أَضَعَكُمْ فِي هَذَا الْمَكَانِ هُوَ يَكْفِيكُمْ ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُم.»
وحين وصل الى بعض الجبال المُحيطة وکان يلوح له منظر أمٍ مُتعبة وطفلٍ رضيع رفع يده بالدعاء قائلاً:
[رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتي بِوادٍ غَيْرِ ذي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقيمُوا الصَّلاةَ]
كان المحور اقامة الصلاة ليس فقط لإسماعيل بل للأجيال القادمة التي ستنزل هذه الأرض الطاهرة و تقيم الصلاة.
[فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]
بالرغم من أن الكعبة بيت الله ولها أهميّة فائقة، لكنّ الأنبياء والأولياء أهم من الكعبة، والايمان بهم شرط قبول الصلاة.
كذلك دعا ابراهيم ربّه قائلاً: [وَ إِذْ قالَ إِبْراهيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً]
طيلة اربع وستين قرناً لا أقل كانت مكة بلداً آمنا بدعاء ذلك الشيخ الذي تجرد عن ذاته، و عن علاقاته النسبية، وترك فلذة كبده إسماعيل و أمه في تلك الأرض القاحلة بهدف اقامة بيت لله، يظلله السلام أمام هجمات الشياطين المادية و الثقافية
[وَ اجْنُبْني وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثيراً مِنَ النَّاسِ]
قد تتمثّل الأصنام في الأحجار وقد تتمثّل في أشخاص يضلّون الناس ويغووهم عن الصراط القويم.
[فَمَنْ تَبِعَني فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصاني فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحيمٌ]
ربما لم يقل إبراهيم و من عصاني فان عذابك شديد لكي يتجنب الذاتية في تعبيره فلا يضمن تعبيره انه هو سبب العذاب.