رأي

المعارضة السياسية في البحرين أمام مفترق طرق

بعد تسع سنوات من الثورة الشعبية وما فرضته من استحقاقات وعلى …

بعد تسع سنوات من الثورة الشعبية وما فرضته من استحقاقات وعلى رأسها إيجاد المشروع الوطني الواضح المطالب بالعدالة، وإقامة دولة المواطنة الحقة التي يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات، تجد المعارضة اليوم نفسها أمام مفترق طرق تاريخي يفرض عليها حسم خياراتها الاستراتيجية فيما يرتبط بموقفها العام مما وصل إليه المشروع الوطني الكبير المطالب بالتغيير وتحقيق العدالة في النظام السياسي وإنشاء دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.

لقد شكلت ثورة الرابع عشر من فبراير ٢٠١١ محطة زخم هائلة للمشروع الوطني في البحرين، وتميزت فترة حركة المعارضة بديناميكية وقدرات تعبوية هائلة واستعدادات كبيرة للتضحية، وبرز في سماء الأحداث وجوه قيادية عديدة اعطاها زخم حراك الرابع عشر من فبراير حضوراً فاعلاً ومؤثراً بشكل ما في المشروع الوطني وأثرت في مجرياته بتأثيرات واضحة.
وقد وضعت الثورة أمام المعارضة فرصة هائلة في تحريك المشروع الوطني وكان إستحقاقاً تاريخياً شكل منعطفاً في مسيرة النضال الوطني برمته، وذلك منذ إستيلاء آل خليفة على الحكم وسيطرتها على الدولة قبل قرنين ونيف من الزمن وتحديداً منذ اليوم الأول لإغتصاب السلطة والشرعية في العام ١٧٨٣م.

وفرضت المعارضة إيقاعها على مسيرة الأحداث، وتصدر مشروع العمل الوطني المطالب بالتغيير المشهد السياسي، لتجد المعارضة السياسية بجميع تشكيلاتها أمام إستحقاقات فرضتها تطورات الساحة، ولتعطيها فرصة تاريخية مهمة ونادرة لتطرح رؤيتها وموقفها السياسي من قضية التغيير والمطالبة بالديمقراطية، وبشكل غير مسبوق في تاريخ نضال أكثر التيارات السياسية القائمة بالفعل على الساحة.

ومنذ الرابع عشر من فبراير ٢٠١١ تجد المعارضة الوطنية نفسها أمام منعطفات إستراتجية مهمة تشكل مفترقات طرق تاريخية، تتطلب منها تحديد الموقف والرؤية في كل مرة أمام هذه المنعطفات وعند كل محطة منها، فعند إنطلاقة الثورة الشعبية في ميدان اللؤلؤة والمعارضة تترنح تحت وقع مفترقات طرق كان لابد لها من الإستجابة لها بالموقف والرؤية الواضحة.

وترنحت قوى المعارضة السياسية على وقع حركة الشعب بين تلك الإنعطافات التي شكلت في معظمها مفترق طرق بين رؤى ومواقف متعدّدة طالت أس المشروع الوطني، بين مطالب بالتغيير الجذري الشامل وحق الشعب في تقرير مصيره السياسي وإختيار شكل النظام السياسي الذي يستمد شرعيته من الإرادة الشعبية، وبين الملكية الدستورية والإصلاح السياسي للنظام السياسي الذي تهيمن عليه عائلة آل خليفة بشكل مطلق.

“المعطيات الراهنة تفرض التغيير في طبيعة المشروع ومسار النضال الوطني”

تميزت حركة المعارضة مع انطلاقة الثورة الشعبية اكبيرة بقدرة عالية من الحركة، وقدرات تعبوية واسعة وأبدت إستعدادات واضحة لقيادة العمل الوطني، فكان بروزها وتألقها في المرحلة الماضية هو عبارة عن مفترق طرقٍ، أسهم بشكل أساس في دفع وتيرة وروح العمل الوطني الشعبي المطالب بالحقوق والحريات السياسية والعدالة، وعززت من روح المقاومة الشعبية لديكتاتورية آل خليفة ونظامها المستبد، وجعلها طرفاً مهماً في صناعة الفعل السياسي بعيداً عن هيمنة آل خليفة على مخانق السلطة والحكم.

ثم تحملت قوى المعارضة السياسية ، في مفترق طرق تاريخي آخر، قيادة العمل الوطني، لتتولى مهمة التعبير عن المشروع الوطني وأهدافه وتطلعاته وطموحاته، وتطبيق رؤيتها الخاصة في التغيير والإصلاح السياسي.

ومنذ إنطلاقة الثورة، والمعارضة السياسية تمر بمفترقات طرق، سواء في تموضعها ومكانها في الفعل السياسي، أم في ما تركته أحداث الثورة من تداعيات وآثار على المستوى السياسي والإجتماعي، أم تشتت مجاميع لا يستهان به من قواعدها الشعبية بين السجون والإختفاء أو المنافي القسرية؛ أم في تموضع رؤيتها السياسية بين مشروع التغيير الجذري الشامل والدعوة إلى إسقاط النظام الديكتاتوري الحاكم، وبين مشروع الإصلاح السياسي وترقيع النظام الحالي وصولاً إلى الملكية الدستورية على غرار الملكيات الدستورية الحاكمة في بعض دول الغرب.

وبين هذا وذاك، برزت هناك عدة محطات في المشروع الوطني العام للمعارضة، كالحكومة المنتخبة والبرلمان ذو السلطة التشريعية الكاملة، والدستور العقدي الذي تكتبه الإرادة الشعبية وتعتمده، وغيرها من مطالب حيوية تصدّرت المشهد طيلة العقد المنصرم.

أما اليوم، وبعد دخول الثورة الشعبية عامها العاشر، بعد أنهت عامها التاسع في الرابع عشر فبراير الماضي، وبعد تراجع مستوى الحراك الميداني والتراجع الملحوظ في حضور الشعب إلى ميدان الثورة والشارع، تهافت صوت وأداء المعارضة على نحو خطير يوحي بإنهيار شامل للمشروع الوطني الذي تصدّر المشهد طيلة السنوات الماضية.

إن المعارضة السياسية في البحرين، والتي أرتفع صوتها مع تصاعد الحراك الشعبي وتداعي القنوات الفضائية وبعض وسائل الإعلام لتغطية الحدث، تقف اليوم أمام مفترق طرق جدية وجديدة، وهي بمثابة إستحقاقات تاريخية هامة وخطيرة على مستقبل المشروع الوطني وما يمكن أن يتحقق على إثر طبيعة موقف المعارضة منها من نتائج على أرض الواقع.

من المؤكد إنه ليس أمام المعارضة السياسية الكثير من الخيارات أمام هذه الإستحقاقات، وفرصتها أصبحت ضيقة للغاية للقفز مجدداً بمشروع العمل الوطني إلى الواجهة، وذلك في ظل المعطيات القائمة والتي تمثل طبيعة استحقاقات العمل الوطني في المرحلة الراهنة، والمطلوب منها حسم خياراتها وتحديد طبيعة مسارات نضالها الوطني وإتخاذ الموقف والقرار الحاسم والواضح الذي قد يسهم في إنقاذ المشروع الوطني، وإستعادة حيويته إلى صدارة المشهد مجدداً. وذلك قبل أن تتلاشى وتنتهي وتصبح مجرد ذكرى في التاريخ في زحمة الإستحقاقات الجديدة.

  • تقف المعارضة السياسية أمام ثلاثة إستحقاقات تاريخية:

الإستحقاق الأول :صياغة المشروع الوطني: ففي خضم الأحداث ضاع المشروع الوطني في الساحة بين مطالب بالإصلاح السياسي وترقيع العملية السياسية بالمحافظة على وجود النظام السياسي القائم وبين خطاب ثوري يطالب بالتغيير الجذري الشامل وإسقاط النظام السياسي القائم وبناء نظام سياسي جديد يستمد شرعيته من الإرادة الشعبية، وغاب بذلك المشروع الوطني الجامع الذي يتمحور عليه عمل وشغل المعارضة، والتي إستفاد منها نظام الحكم في تقويض أهم وأخطر مرتكزات الثورة الشعبية وهو المشروع الوطني الجامع للإرادة الشعبية. وعمل على تأجيج الإنقسام في المشروع الوطني بأن أعطى الفرصة لأحد أطراف المعارضة برفع الصوت ووفر لها مساحة أكبر من الحركة، ليس إيماناً وقناعة بما تطرحه من مطالب سياسية تتعلق بإصلاح وترقيع النظام السياسي الحاكم وإنما لتعمل إستراتيجياً على هدم وتدمير المشروع الوطني الواحد والجامع للإرادة الشعبية.

لقد آن للمعارضة أن تعيد حساباتها وأن ترفع الغطاء وتسحب البساط، وتعلن موقفها بلا قفازات تجاه إغتصاب السلطة والهيمنة المطلقة والشاملة على الحكم، وأن تحسم خياراتها في مشروعها الوطني الشامل

ولتصبح المهمة الإستراتجيية في المرحلة الأولى هو القضاء على الصوت المرتفع المطالب بالتغيير الجذري الشامل والقضاء عليه. وهكذا تم إعطاء الفرصة للمعارضة التي تبنت خيار الإصلاح السياسي لتعبر عن مشروعها السياسي بمساحة كبيرة من الحرية للتعبير عن مشروع الإصلاح السياسي، وكان الهدف الواضح فيما بعد من ذلك هو إحتواء صوت المعارضة المطالب بالإصلاح السياسي وحصر تأثيره فقط على مناهضة مشروع التغيير السياسي الجذري والمطالب بإسقاط النظام وبناء نظام سياسي جديد يستمد شرعيته من الإرادة الشعبية.

لقد أعطى هذا الإنقسام في المشروع الوطني الفرصة للنظام لتجزئة المواجهة بحيث تفرغ في المرحلة الأولى من ناحية إستراتيجية لحصر وقمع وكسر إرادة المطالبين بالتغيير الجذري الشامل، لطبيعة ما يشكله من خطر وجودي على النظام، وتاركاً المجال لصوت المعارضة المطالب بالإصلاح السياسي أن يتعالى وحركة المعارضة في هذا الإتجاه أن تتوسع على الأرض بهدف سحب ما يمكن من زخم جماهيري وشعبي لصوت المعارضة المطالب بالإسقاط والتغيير السياسي الجذري الشامل، بغرض إضعافه والقضاء عليه.

ولم يتأخر النظام كثيراً عندما تمكن من توجيه ضرباته المتتالية للمعارضة التي تبنت خيار الإسقاط، من تطويق المعارضة التي تبنت الخطاب الثوري بقمعها وإعتقال قادتها وكوادرها وكثير من قاعدتها الشعبية وفرار الكثير من عناصرها في إسكات المعارضة المطالبة بالإصلاح، والتي سمح لها في فترة إنشغاله القصوى بالقضاء على المعارضة الثورية برفع الصوت وأعطاها مساحة كبيرة من الحركة لتسهل عليه إنجاز مهمة القضاء على مشروع التغيير الجذري الشامل

وكانت مهمته التالية بعد أن تمكن من تقويض صوت المعارضة المطالب بالإسقاط، فيما حدث لاحقاً، هو إسكات صوت المعارضة المطالب بالإصلاح السياسي، وكانت مهمة متوقعة وسهلة، في ظل حالة معنوية كبيرة يستشعر بها النظام عندما أستطاع أن يقوض صوت المعارضة الثورية من الشارع ويزج بقادتها ورموزها إلى السجن. وهكذا تم في الخطوة اللاحقة منع وإسكات صوت المعارضة المطالب بالإصلاح وكانت أكثر سهولة بالنسبة لمهمة صعبة وقاسية خاضها النظام لتطويق مشروع ثوري يطالب بالتغيير الجذري الشامل.

لقد دخل نظام الحكم في معركة وجود مع كل أطياف المعارضة، إستخدم فيها كل وسائل البطش والتنكيل والإنتقام، وأستخدم بقسوة بالغة كل ما تستطيع أن تصله يده من وحشية وقذارة، ليس في القتل المتعمد للمتظاهرين أو بالتعذيب والممارسات الحاطة بالكرامة الإنسانية والتحرش الجنسي للمعتقلين، وإنما في التعدي على الحرمات والأعراض والنواميس وانتهاك الحرمات.

وبعد هذه التجربة المريرة من القمع دخلت البحرين في أسوأ مراحل تاريخها السياسي المعاصر من تنمر النظام وعدوانيته، فقد إزداد شراسة في القمع والإضطهاد السياسي، وإصبح النظام السياسي أكثر إستبداداً وديكتاتورية.
هنا وبعد التجربة الطويلة من الصراع السياسي وفشل كل محاولات الأصلاح السياسي وإصرار النظام على الإستئثار المطلق بالحكم والسلطة والموارد، ومن وهم الإصلاح السياسي أو ”الملكية الدستورية“، ولم يعد هناك مجال لغض الطرف أو الهروب من هذه المعطيات، خاصة في ظل دعم واضح من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانية لإبقاء النظام السياسي والسلطة في يد آل خليفة الذين إزدادوا قمعاً وتطرفاً في الإستئثار الكامل والمطلق بالسلطة والموارد، وفي ظل إنحياز شامل وكامل للمجتمع الدولي لسلطات الأمر الواقع.

إن مسيرة طويلة من النضال الوطني قدّم فيها الشعب التضحيات الكبيرة، وهي مسيرة تضحيات مدعمة بالأرقام والحقائق التي شهدت بها منظمات حقوق الإنسان، خاصة تلك التي يعتد بها في العالم وعلى رأسها مجلس حقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة، تخللتها مسيرة حافلة بخطاب معارض يداري المجتمع الدولي ويلتمس منه وهيئاته المتعدّدة للتدخل لتعزيز مبادىء الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنها رغم كل التوثيقات الدولية، لم تقنع أحداً من هذا المجتمع الدولي، بإننا شعب يستحق الحياة، وأثببت الوقائع بأن مؤسسات المجتمع الدولي هي أعجز من أن تفرض قراراً واحداً لفرض دولة المواطنة أو النظام الديمقراطي الذي يحفظ الحقوق والحريات السياسية في أي مكان في العالم.

إن مسيرة طويلة من محاولات إثبات وطنيتنا، وانتمائنا للوطن، وشعارات رفعناها لإشهار حسن النوايا من ”السلمية“ ونبذ ”العنف“ وتثبيت شرعية نظام الحكم بأطروحة الملكية الدستورية، وإعلان البراءة من الثوار، بل وصل الحال بنا مدارة للمجتمع الدولي بإعلان الإستعداد لمطاردة الثوار وتقديم معلومات تدل على أماكن تواجدهم وإختبائهم، وقمنا بممارسات وسلوكيات تجاوزت مجرد إثبات حسن النوايا وصدق المواطنة، إلى ما أبديناه من إستعداد للتضحية الكبرى من أجل حسن النوايا هو القيام بمواجهة مشروع وطني كبير طالب بالتغيير الجذري الشامل ومقاومة رفع شعار إسقاط الديكتاتورية والإستبداد ووضع حد للحكم الشمولي المطلق، وقدمنا التنازلات الكبرى في إنكار مبادىء وقيم عامة نؤمن بها كولاية الفقيه وطالبنا الحلفاء والأصدقاء بالإبتعاد عنا، ورفعنا أمام أهم حلفائنا ونحن نطالبهم بالإبتعاد عنا، راية أن مشروعنا هو وطني محظ، وأننا لا نريد حتى من أصدقائنا التدخل فيها.

رغم كل التنازلات التي قدّمناها لإثبات حسن النية وصدق المواطنة، إلاّ أنّهم لايرون فينا كمعارضة إذا ما أردنا الحياة والبقاء، سوى أن نكون مجرد أدوات وظيفية لشرعنة الحكم الشمولي المطلق وتوفير غطاء لسلطة الأمر الواقع والسكوت عن إغتصاب الشرعية بل أن نكون أداة وظيفية إذا تطلب الأمر لقمع أي صوت مطالب بإسقاط الحكم المطلق والديكتاتورية وإلاّ فنحن إرهابيون.

لقد آن للمعارضة أن تعيد حساباتها وأن ترفع الغطاء وتسحب البساط، وتعلن موقفها بلا قفازات تجاه إغتصاب السلطة والهيمنة المطلقة والشاملة على الحكم، وأن تحسم خياراتها في مشروعها الوطني الشامل.

  • الاستحقاق الثاني: الموقف من المجتمع الدولي:

إن مسيرة النضال الوطني في البحرين تحفل بتاريخ طويل من التضحية والعطاء، قدّم فيها الشعب على مدى القرنين ونيف من إستيلاء آل خليفة على الحكم التضحيات الجليلة تتقدمهم قافلة كبيرة من الشهداء. ولكن كلها لم تشفع لدى المجتمع الدولي بأن يتخذ قراراً واحداً إيجابياً في مصلحة تعزيز دولة المواطنة كما تنص عليها العهود والمواثيق الدولية.

وبتنا كمعارضة وشعب ندفع الثمن باهضاً في كل مرة من أبناء وبنات شعبنا عندما نطالب فيها بدولة المواطنة وتعزيز مبادىء الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي كل مرة نأمل من هذا المجتمع والبيئة الدولية أن تقدم لنا يد العون والمساعدة في تحقيق مطالبنا التي تصفها دائماً بالعادلة والمشروعة ولكن دون قرار واحد يحرك أشرعة الحكم والسلطة خارج شبر واحد من يد سلطة الأمر الواقع ونظام السيطرة المطلقة على الحكم. وهذه تقارير المنظمات الدولية توثق الإنتهاكات وتصفها بالجرائم لم تشكل حتى أرضية قرار أممي واحد لمصلحة الديمقراطية وتعزيز مبادئها وقيم حقوق الإنسان ليس في بلادنا فحسب وإنما في أي بقعة من بقاع العالم.

وفي ثورة الرابع عشر من فبراير، ومع كل زخمها الشعبي التاريخي، ومع كل نداءات المعارضة وتوسلاتها وبلغة الحقائق والإحصاءات والأرقام، لم يتعاطى هذا المجتمع الدولي مع قضية مشروعنا الوطني سوى إننا مجرد كانتونات وظيفية يجب أن تقوم بدور حماية سلطة الأمر الواقع وتدافع عن شرعية وجوده وأن تكرس وجودها في خدمة الحكم المطلق بيد آل خليفة أكثر من خدمة أهداف المشروع الوطني نفسه والذي تقره بنود ومواد العهود والمواثيق الدولية ذاتها.

إننا نقف اليوم أمام تساؤلات مشروعة في سياق التعاطي مع المجتمع الدولي بما يمليه علينا واقع تجربة نضالنا السياسي بل بما يجب أن تفرضه واقع تجارب الشعوب المناضلة الآخري في سبيل تحقيق الإستقلال والحرية، ففي الحقيقة أنه ليس هناك ما يبرر الجمود على نفس الرؤية التي اتسمت بإستعطاف سواء للمجتمع الدولي أو البقاء على نفس منهج توّسل الحل من السلطة المغتصبة للشرعية بقوة السلاح وفرض الأمر الواقع، خاصة لحركات تمارس النضال الوطني من أجل إنتزاع العدل وجميع الحقوق السياسية التي تفرضها دولة المواطنة. ويدرك الجميع اليوم الدور الوظيفي الذي أدى إليه منطق إثبات حسن النية وصدق المواطنة من توفير غطاء لمشروع إحكام القبضة على السلطة وإحتكار الموارد والهيمنة المطلقة والشاملة على الحكم، وتوفير بيئة التطبيع مع إغتصاب الشرعية وديكتاتورية نظام الحكم، وتمرير تثبيت الحكم لدى آل خليفة والتعاطي معه كقدر وأمر واقع لايمكن تغييره.
هناك بطبيعة الحال تحديات قاسية وصعبة تواجه جميع قوى المعارضة السياسية مع الإستحقاق الذي فرضته طبيعة تعاطي المجتمع الدولي مع الحركة المطلبية للشعب بإزاء تعزيز الديمقراطية ومبادىء وقيم حقوق الإنسان وإستعادة الشرعية للإرادة الشعبية.

من جهة آخرى فإن المعارضة قد قامت بصياغة وعي كوادرها بل وقواعدها الشعبية على ثقافة إثبات حسن النية وصدق المواطنة والتعويل على المجتمع الدولي في التضامن وإحداث التغييرات التي تفضي إلى إحداث الإصلاح والتغيير السياسي المنشود، وإن أي إنتقال في الخطاب والموقف السياسي سيواجه تحديات ليست هينة.

وليس من السهل اليوم أن تقرر المعارضة بخلاف خطابها طيلة المرحلة الماضية من عمر النضال الوطني ومسيرة الصراع من أجل الديمقراطية وتعزيز مبادىء وقيم دولة المواطنة الحقة، خاصة وأن العمل المعارض تبنى فكر المدارة والترضية للمجتمع الدولي بذريعة ومبرر رفض البيئة الإقليمية والدولية لخط المقاومة أو لـ”الإسلام السياسي“ لأي خطاب يطالب بالتغيير الجذري الشمولي، وهي القناعة التي كانت تقف خلف وراء خطاب ومنهج إثبات حسن النوايا وصدق الإنتماء للوطن.

إن في إعادة تعريف المعارضة لهوية نضالها الوطني كمشروع وطني مقاوم لكافة أشكال التطبيع مع سلطة الأمر الواقع وتحدّي الهيمنة المطلقة والشاملة على الحكم والموارد، يضعها أمام إستحقاق وطني كبير ويجعلها أمام انعطافة كبيرة في مسار العمل والنضال الوطني، ويضعها بعبارة أدق أمام مفترق طرق إما الإستمرار والمواصلة في ذات النهج من إثبات حسن النية والتعويل على المجتمع الدولي الذي أوصل نتائج حراك شعبي تاريخي بحجم ثورة الرابع عشر فبراير إلى ما نحن عليه بعد مرور تسع سنوات سنوات من الثورة أو إختيار النهج النضالي المستمر والدؤوب في مجابهة الظلم وإنعدام العدالة، وفرض إيقاع هذا النضال الوطني المعتمد على إرادته الذاتية ومن شرعية ومشروعية الحق الذي تمثله لإنتزاع العدالة وتحقيق دولة المواطنة المنشودة.

ومن حيث الواقع، فإن على المعارضة أن تختار بين دفع الأثمان المترتبة على خياراتها الوطنية أو أن تجد نفسها عاجزة وغير قادرة على الإستمرار في حمل راية النضال الوطني بل وفارغة من كل محتواها النضالي والوطني ووجودها في مسار المشروع الوطني وأن ليس لها أي قيمة.

  • الإستحقاق الثالث: استحقاق التعاون:

تقود المعارضة منذ عقود مسيرة النضال الوطني، وقدّمت في هذا الطريق التضحيات الكبيرة من بينها العشرات من الشهداء. ولها إنجازاتها الملحوظة في كشف حقيقة طبيعة الصراع السياسي القائم، ووضعه لفترة ليس قصيرة خلال العقد المنصرم في صدارة الأحداث العالمية رغم سخونة واهمية العديد من الساحات الآخرى. فقد أستطاعت المعارضة أن تبرز إلى العالم قضية نضال الشعب وكفاحه من أجل الحقوق والحريات كما أسقطت بشكل قاطع شرعية النظام الحاكم وجعلته في مواجهة حقيقية مع العالم، وأستطاعت قوى المعارضة أن تكشف طبيعة نظام حكم آل خليفة وأن تجعله عارياً أمام العالم.

لكن رغم تلك الإنجازات لم تستطع المعارضة من تحقيق تحول سياسي في العملية السياسية بأي شكل، بل خرج النظام ويده مفتوحة للقمع وممارسة كافة أشكال الإضطهاد السياسي بما لم تشهدها البلاد طيلة تاريخها السياسي. فلم يحدث، رغم التاريخ الطويل لمسيرة النضال الوطني أن قام آل خليفة بهذه الحملة الشرسة كرد فعل على مطالب الثورة الشعبية من القمع الذي إتسم بصفة الإنتقام.

وبغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج، فليس الهدف او المطلوب هنا هو إلقاء اللوم على طرف من المعارضة دون سائر الأطراف وتحميله المسؤولية دون سواه، بقدر ما أن المشروع الوطني وصل إلى “نقطة حرجة” لم يعد يحتمل معها التأجيل أو التسويف، لمواجهة استحقاقات كبرى قائمة على الساحة اليوم وذلك بعد مرور تسع سنوات من الثورة الشعبية ودخولها العام العاشر، تفرضها طبيعة المعطيات القائمة على الأرض وأبرزها:
أولاً: الدعم الإقليمي والدولي المطلق والمفتوح الذي يحصل عليه النظام لتعزيز قدرته على الصمود والبقاء.
ثانياً: رهان السلطة على الوقت وتعب المعارضة والشعب من المطالبة بالحقوق السياسية وذلك لإنهاء مشروع المطالبة بالحقوق والحريات السياسية.
ثالثاً: توجه العديد من النخب ليس في خطاب المصالحة الوطنية وإنما إعلان الإستسلام والهزيمة والإعتذار للنظام وقبول سلطة الأمر الواقع بلا أدنى مطالبة بالحقوق أو الإهتمام بما نسميه هنا بالمشروع الوطني أو مسار النضال الوطني من أجل تحقيق الإنصاف والعدالة.
ولذلك، لم يعد هناك المزيد من الوقت للمناورات الشكلية ولا المناكفات السياسية وكما لم يعد هناك مجالاً للمحاصصات الفصائلية التي من شأنها أن تقوض مسار العمل الوطني لمعزوفات إستحقاق زائفة غير موجودة ولا تسمن ولا تغني من جوع في مسيرة النضال الوطني من أجل العدالة والحريات.

وجميعنا يعرف ما تعانيه المعارضة السياسية من ضعف وتراجع في مسيرة نضالها الوطني، لكننا بنفس المقدار نجد الإصرار على الإستمرار بذات النهج والأسلوب من التعاطي في شأن المشروع الوطني وهيمنة فكر إثبات صحة وسلامة وجهات النظر في ما يرتبط بتقييم أولويات المشروع الوطني وأهدافه، والدخول في معارك إثبات خطأ وعدم وعي وإدراك وجهات النظر الآخرى في مسار النضال الوطني من أجل التغيير.

رغم جسامة الأحداث وما مرت به مسيرة النضال الوطني خلال الأعوام التسع الأخيرة وسقوط العشرات من الشهداء وممارسات السلطة القمعية القاسية والمتوحشة والتي وصلت حد إنتهاك الأعراض وهتك النواميس إلاّ أنها لم تستطع أن تدفع بالمعارضة إلى التعاون حتى في أدنى المستويات ولا نقول التداعي للائتلاف تحت مشروع وحدة وطنية نحن بأمس الحاجة إليه.
لقد وجه كثيرون النقد إلى المعارضة وتمت دعوتها من أطراف محبة عدة إلى الوحدة والتعاون، ودعا مخلصون كثيرون أطياف المعارضة وتياراتها المتعدّدة أن يتم تغليب المشروع الوطني العام على المصالح الفئوية والحزبية الضيقة، وبذل بعض المحبين جهوداً ملحوظة من أجل وحدة المشروع الوطني للمعارضة، خاصة لحجم ما تتعرض إليه قضية النضال الوطني من تحدّيات ضخمة وكبيرة أقلها في تحالف الإقليم والمجتمع الدولي ضد مشروع التغيير وضد حتى مشروع الإصلاح السياسي وترقيع النظام.

وللإنصاف فقد جرت عدة محاولات إيجابية من أجل التقريب بين قوى المعارضة السياسية ولتضييق مسافات التباين في تشخيص الأولويات ووجهات النظر حول طبيعة المواجهة السياسية مع السلطة وتحجيم الإختلاف حول طبيعة أولويات مشروع النضال الوطني من أجل الحريات إلا أن جميع المحاولات لم تصل إلى نتيجة واضحة وملموسة وباءت جميع المحاولات بالفشل، رغم حديث الجميع عن ضرورة وحدة المعارضة ولا أقل وحدة مشروع نضالها الوطني، ويعود ذلك لعوامل عدة تختلف بين طرف وآخر من قوى المعارضة السياسية، أدت إلى عدم جدية الجميع في مشروع التلاقي حول مشروع نضال وطني واحد والمفضي إلى تعاون جدي بين جميع الأطراف، وساد بين جميع قوى المعارضة تجاهل عملي حاد لمشروع وحدة مشروع المعارضة وطنياً، بل إتسم سلوك بعض أطراف المعارضة بالتعالي على مشروع التقريب بين مختلف قوى المعارضة وراحت تعمل وفق أجندتها الخاصة، وأخذت تستميت في الدفاع عن وجهة نظرها ورؤيتها حول أولويات العمل الوطني متجاهلة بشكل فج وممجوج رؤى القوى السياسية النشطة والفاعلة على الساحة، مستفيدة من الإمكانات والمعطيات التي بيدها وبقدر من الإحساس بالفوقية وإمتلاك ناصية شرعية العمل الوطني.

ومن المؤسف القول، وفي سابقة فريدة، تعذر عقد لقاءات حتى تشاورية بين بعض أطراف المعارضة مع بعضها الآخر رغم محاولات عديدة لجمع بعض هذه الأطراف مع بعضها الآخر، والمشروع الوطني الذي يحمله الجميع في ظرف أحوج ما يكون فيه لرؤية وطنية وبرنامج وطني شامل ومشترك.

لا شك أن جميع أطراف وقوى المعارضة السياسية تحركت وفق رؤية وطنية صادقة ومخلصة، وقد بذل الجميع ما بوسعه من أجل المشروع الوطني المشترك، لكن الإستحقاقات التي ترتبت بفعل ما تبنته بعض قوى المعارضة لكي تكون مقبولة لدى دول الإقليم والمجتمع الدولي وقرارها بصورة منفردة بالتحرك في مسيرة النضال الوطني وفق الوصفات والمعايير الأمريكية، وحتى وفق قياسات ومواصفات النظام المغتصب للسلطة لم تؤدي إلا لتفريغ قيمة النضال الوطني من مضمونه الأخلاقي والعملي.

ففي الوقت الذي يتم فيه تكريس الإستبداد والسيطرة المطلقة على الحكم وطمس دولة المواطنة ودفن الهوية ومحو كل أثر دال عليها، قامت بعض أطراف المعارضة بتليين خطابها إلى حد الإعتراف بسلطة الأمر الواقع ودون أن ترتقي بمشروع نضالها الوطني للمواجهة مع إغتصاب السلطة وإحتكارها. واليوم لابد أن تقف المعارضة بجميع أطيافها وتياراتها أمام الإستحقاق التاريخي الذي تفرضه طبيعة المعطيات القائمة على الأرض بالسعي الجاد لإعادة صياغة مسار النضال الوطني والإستعداد لدفع الأثمان المترتبة على ذلك والعمل على ترميم بيت المعارضة السياسية على مشروع وطني يقوم على أساس النضال من أجل الكرامة ووفق الثوابت الوطنية غير المنحازة إلا لقيمة الحرية والعدل والإستحقاقات الوطنية اللازمة والواجبة التنفيذ، وما يتطلبه من إنفتاح وتعاون بين جميع فرقاء جبهة المعارضة السياسية لتحقيق شراكة نوعية في مسيرة النضال الوطني من أجل التغيير.

كما أن هناك معطيات واستحقاقات عديدة لابد من أن تشغل فكر وبال قادة وكوادر جميع قوى المعارضة السياسية تتعلق بطبيعة ما يجري من صراع على الساحة الدولية وخاصة الإقليمية منها، والإهتمام بدراسة التداعيات التي تفرضها طبيعة تطورات الأوضاع في كل منقطة من مناطق الصراع في الإقليم المحيط بنا. فلكل الصراعات القائمة تداعيات ستترك آثارها المباشرة وغير المباشرة على طبيعة الصراع السياسي القائم في بلادنا، فهي ليست مفصولة عنها إلا بمقدار ما تفرضه وتمليه صراع الإرادات في المنطقة، كما أن هناك إستحقاقات بموجب الكثير من المعطيات الآخرى والناتجة عن طبيعة حسم المعارضة مسار نضالها الوطني، وعن طبيعة قرارها بشأن مشروعها الوطني.

لقد بات من الضروري أن تقف المعارضة وقفة جادة ومسؤولة للمراجعة والتقييم وهندسة مسار النضال الوطني بما يتلائم وطبيعة جميع الإستحقاقات التي تفرضها المعطيات القائمة على الأرض، وفي سلم أولويات المرحلة الراهنة للمعارضة حسم موقفها من المحاور الأساسية لمشروع النضال الوطني كالموقف من النظام وشرعية وجوده والطريق إلى تغييره، وهي مدعوة للإنفتاح والتحلي بقدر كبير من المرونة والتواضع بما يعينها للتعرف على طبيعة التحدّيات القائمة أمام مسار النضال الوطني والتي تؤثر على مستقبل مشروعها السياسي وتطلعاتها الكبرى في التغيير، وكذا ضرورة النظر في الإستحقاقات المرتبطة بالموقف من التحالفات السياسية مع دول الجوار كإيران وسوريا ومنظومة الأنظمة السياسية الجديدة الناهضة في العالمين العربي والإسلامي وتحديداً في العراق واليمن، وغيرها من الإستحقاقات المتصلة بالمشروع الوطني الشامل والكامل للمعارضة السياسية، كالبحث في وحدة المسار الوطني بين قوى المعارضة ودراسة آليات التنسيق والتعاون فيما بينها، سواء الجماعي أو الثنائي، وتعميق النظر فيما تستطيع إنجازه في طريق التغيير السياسي المنشود.

ولابد أن تدرك المعارضة بأنها أمام مفترق طرق قد يؤدي بها إلى التلاشي والإنهيار، وأنه لابد أن تكون بمستوى التحديات القائمة لكي تستطيع المواصلة والإستمرار في مسار نضالها الوطني، فهناك المزيد من الإستحقاقات في ملف المشروع الوطني الذي يجب على المعارضة أن تضع بإزائها الإجابات الواضحة كقضية التداعيات والآثار التي خلفتها ثورة ١٤ فبراير من شهداء ومعتقلين وقضية مئات المواطنين الذين يعيشون في المنافي القسرية، وكلها موضوعات ملّحة واسئلة مؤثرة في طبيعة المشروع الوطني الذي يجب أن تتبناه المعارضة.
إن الهروب من مواجهة هذه الإستحقاقات خاصة فيما يتعلق بطبيعة الموقف من النظام الحاكم، ومسار النضال الوطني، وموقفها من المجتمع الدولي، وضرورة وجود المشروع الوطني الجامع لجميع أطراف المعارضة، وتراخي المعارضة وفتورها في التعاطي الجاد مع جملة هذه الإستحقاقات وعدم إتخاذها القرارات الصائبة والملائمة، لمعالجة هذه الإستحقاقات، لن يعني سوى المزيد من التراجع في مسار النضال الوطني وعن المزيد من تراجع دور وتأثير المعارضة في إحداث التغيير السياسي المنشود.

إن هذه الإستحقاقات تضع المعارضة أمام مفترق طرق تاريخي، وعليها أن تحسم خياراتها الإستراتيجية، وليس أمامها الكثير لتحافظ على هويتها النضالية لتتخذ القرارات الصحيحة والسليمة في مواجهة هذه الإستحقاقات، خاصة مع وجود نظام إزداد في تصلبه ووحشيته وشراسته وقسوته وبغطاء من المجتمع الدولي الذي وقف إلى جانبه وما يزال يمده بكل أسباب البقاء، من إجازة قمع وإضطهاد قاسية ومتوحشة، ومن إعطاء ضوء أخضر في إغتصاب السلطة وفرض حكم الأمر الواقع، وإعطائه القوة لرفض أي نوع من التسويات والتفاهمات وعدم الإعتراف بالإستحقاقات الوطنية كحق الشراكة والإنصاف والعدالة.
لقد آن للمعارضة أن تقف وقفة مراجعة وتقييم جادة لصياغة المشروع الوطني وتشكيل أولويات مسار النضال الوطني، ولابد هنا من تواضع الجميع من أجل نجاح مسيرة النضال الوطني للمعارضة ومشروع المعارضة الوطني لوضع حدد للإستبداد وإنهاء عقود طويلة من نظام السيطرة المطلقة على الحكم والموارد.

عن المؤلف

د. راشد الراشد

اترك تعليقا