عملت المرأة منذ بدء البشرية وإلى يومنا هذا جنباً إلى جنب مع الرجل في تذليل الصعوبات، وجعل الحياة أحلى وأجمل..
والسير بالركب محاذاة لمتطلبات الحاجة لوجودها بمؤازرته وملء الحياة بلمساتها العملية والقولية وعلى كل الاصعدة.
وفي عصرنا الحالي، ومع ارتفاع تكاليف المعيشة مع تراجع فرص العمل وتفاقم مشكلة البطالة، وتوفر المكائن ذات التقنية العالية التي اختصرت الكثير من الوقت والجهد، مما تسببت في تسريح الآلاف من الأيدي العاملة.. دفع بالمرأة لاقتحام ميادين العمل بمجالات أوسع، وبثقل أكبر وجهد مضاعف، تارةً لتلبية حاجة مادية وتوفير مردود مالي يعينها على إعالة نفسها وأسرتها، وتارة أخرى، لحاجة ذاتية في تحقيق طموحاتها، واثبات نفسها كشخصية قادرة على ولوج معترك الحياة بثبات وصلابة، لتُبدع وتتألق في كل المجالات.. ولتضع لمساتها في مفاصل الحياة كافة، فها نحن نرى الشاعرة والأديبة والطبيبة والمهندسة والمعلمة وغيرهن الكثير، يعشن في زحمة تلك الرغبة الجامحة في مشاطرة الحياة مع الرجل، والإمساك بزمام الأمور وتحمل المسؤولية.
المنعطف الصعب
من أولى الاولويات في حياة المرأة هو البيت، فهي مطالبة بتحقيق التوازن الهادف والنافع بين الادوار المناطة بها من دون أن تكون مشتتة بين دورها كزوجة وأم وموظفة وصديقة ومدرّسة ومعيلة وغير ذلك، ومن جانب آخر هي مطالبة من قبل الله – تعالى- ومن المجتمع أن تخلع جلباب كل شخصية عند مفارقة أعتابها، فهي مع الزوج، ترتدي ثوب الانثى الحنون ورداء الرقة والهمس الاجمل، ومع الاولاد هي برداء نبع الامان ومركز الدفء الامومي الاهم، وفي العمل هي تلك الانسانة الاقوى التي تساعدها طبيعتها على الابداع والمواءمة بين الاعمال بممازجة، ولا أروع بين لمستها الانثوية وحسها الانساني العالي.
وهذا غير خاف على الجميع، أمر يحوي من الصعوبة الشيء الكثير باحتواء كل الادوار، ولبس كل قبعات التفكير السبعة التي تحتاجهن جميعاً وبتوالي في أماكن عملها الإجتماعي والمنزلي.
وهنا يكون المطبّ الاصعب وهو الاستنزاف للمشاعر والطاقات والعاطفية ونضوب ينابيع الحنان من قلبها الرؤوف الرؤوم لتكون عصبية وبتحسس عالٍ لما حولها في بعض الأحيان والاوقات، بسبب الازمات الطبيعية، هذا علاوة عن أن طاقات بدنها لاتساعدها على الاعمال المتعبة وتحمل ضغوطات العمل الصعبة كونها مُعدّة الهياً لدفء البيت وأعماله المتاحة والمتوافقة مع مهاراتها الانثوية.
ومن هنا نجد نسبة من النساء أفرغن مشاعرهن وأحاسيسهن وطاقتهن خارج المنزل، حتى لم يبق للبيت شيء! فترجع وهي متعبة، منهكة، معبأة بضغوط ما واجهته خلال عملها، وهنا نلتفت لوصية الامام علي، عليه السلام، لابنه الحسن، عليه السلام، إذ قال له: «وان استطعت الا يعرفن غيرك فافعل ولا تملك المرأة من امرها ماجاوز نفسها، فان المرأة ريحانة وليست بقهرمان».
لذا نرى أن أنصار ومؤيدي جلوس الأم في بيتها لتربية أولادها، يتحدثون عن الأمهات سابقاً، وكيف كنّ مفعمات بالحب والحنان؛ لأنهن أفرغن روحهن ومشاعرهن لأولادهن، فالأسرة التي تنشأ وتترعرع وسط أحضان وحنان الأم وقلبها الكبير، وفضائلها الحميدة، وعفتها وإيمانها وإرشادها وتوجيهاتها المستمرة، ستكون حاضنة صحيّة لأبناء أصحاء يعيشون في توافق وسلام مع أنفسهم ومجتمعهم.. بعيداً عن الانحراف والتحلل الأخلاقي.
ولا يمكن حصر أسباب عمل المرأة فهي كثيرة.. وقد يكون أغلبها تحت شعار «حشر مع الناس عيد»، فالتفكير الجمعي للناس صار باتجاه نجاح المرأة وشهادتها ووظيفتها وراتبها ومكانتها الاجتماعية ومركزها المرموق، وليس باتجاه الزواج وتفاصيله ونتائجه غير الايجابية احياناً لمستقبل البنت، والتي لن تستطيع معه اكمال دراستها والذهاب بعيداً في الحصول على وظيفة محترمة.
سلاحٌ ومعركة!
كثيرا ما نستمع لمقولة مفادها «الشهادة والوظيفة سلاح بيد المرأة»، وهذا يعكس خوفاً خفياً في النفوس بأن الحياة متقلّبة، ولان المرأة تحتاج الإعالة، فهي تجذب ذلك القلق المستمر عبر حياتها برسم مخاوف شتى منها؛ احتمال استغناء الزوج عنها. وايضاً احتمال تخلّي أولادها عنها في مرحلة الكهولة، مما يجعلها بحاجة شديدة لمورد مالي من وظيفة او غيرها لسد هذه الحاجة الحياتية.
ولذا نرى الفتاة تُعد العدة منذ البداية لاعداد سلاحها (شهادتها) تحسباً لخوضها معركة الحياة، مما يولد لديها القناعة التامة بأن الأولوية لعملها، فهو القادر في النهاية على حفظ ماء وجهها الى آخر العمر.
كل هذا لم يكن لولا رياح صفراء قادمة من الغرب تستهدف تدمير كيان الأسرة من خلال رفع شعارات؛ تحرير المرأة، ومساواتها بالرجل، غزتنا بعقر دارنا، وصارت البوصلة كلها باتجاه الدراسة والعمل، ومواكبة أحدث الأزياء والموديلات، والجري وراء التسوق والانفاق غير المبرر، وتناسي مسألة استقرار الأسرة وهدوئها النفسي، وتوازنها المعنوي والإيماني.
سعادة منشودة
ومع كل ماذكرنا تبقى التجارب شتى تحياها الأسر العاملة، ويبقى الجميع ينشدون السعادة، فأين تكمن هذه السعادة ليتجهوا نحوها؟
إن كنت مع عمل المرأة أو بدونه، فليست هناك قوالب جاهزة، أو تعميم تجربة أسرة على أسرة أخرى تغايرها بالميول والاتجاهات والاستعدادات النفسية والمادية..
فزاوية الرؤية تختلف بحسب الظرف المتيسر لكل فرد، فهناك من يرى أننا نحتاج للراحة، نعم، ولكن؛ لاوقات معينة، كما نحتاج أولادنا، نعم؛ ولكننا في زحمة انشغال كل من حولنا بما يهمه.. حتى الأولاد صارت لهم عوالمهم الخاصة، وخوضهم هذه العوالم بحرية تلبي حاجاتهم، لذا يصبح عملنا في زحمة عالم المتغيرات هو هويتنا والبحث عن قيمنا.
نعم؛ هناك الكثير من ربات البيوت سعيدات في حياتهن؛ ليس بسبب أنهن لا يعملن خارج المنزل فقط، بل إما لأن أزواجهن من الميسورين، ويتحلّون بطيب الاخلاق والسلوك، او لأنها سيدة مؤمنة بأن الأولوية لبيتها، وهي ناشئة على الفضائل الطيبة التي تنشد تربية أبنائها عليها، فتكون مسيرة العائلة بشكل عام، هي خدمة الزوج والبيت والأولاد.. وليس لهن أي رغبة بالخروج والعمل والابتعاد عن الأولاد.
المرأة والعمل
إذن؛ المسألة ليست محسومة بقدر ما أن لكل حالة تفسيرها وظروفها.. خاصة اذا وجدت المرأة في نفسها الحاجة بحق للوظيفة، وأنها تستطيع التوفيق بين حياتها العلمية، وحياتها الاجتماعية لحماية أسرتها من الضياع، فمن الجميل والهادف ان تستثمر شهادتها بوظيفة محترمة.
ولا بأس أن تذهب المرأة بعيداً في تحصيلها العلمي والمعرفي، والحصول على وظيفة ومكانة جيدة وراقية، إن وجدت نفسها قادرة، ولها مواهبها وإمكانياتها، وأيضاً ترى في نفسها أنها تستطيع التوفيق ومسايرة الأمرين؛ العمل والبيت بوتيرة واحدة، وبنسق مدروس لا يتسبب بإهمال عملها والتقصير به بحجة بيتها، ولا التقصير في بيتها بحجة عملها.
وفي مجتمعنا عشرات الأمثلة عن نساء ناجحات في حياتهن، استطعن قيادة عملهن وأسرهن وأولادهن نحو بر الأمان.. واستطعن النجاح والتفوق والتوفيق في شتى مفاصل عملهن الوظيفي والأسري، وتخرج على أيديهن أبناء ناجحون متفوقون في الحياة.. وهذا ما نأمله من كل النساء الفاضلات.. لبناء مجتمع رصين ومتماسك.
المملكة الأجمل
ولكن بطبيعة الحال، يبقى البيت مملكة المرأة الأجمل، رغم انحسار أعداد الراغبات والمستعدات للتضحية بمستقبلهن والتفرغ للزوج والأولاد ومتطلباتهم، فمهما ذهبت المرأة وتدرجت وقطعت أشواطاً ومسافات طويلة في حياتها العلمية والعملية، لكنها تتمنى في قرارة نفسها لو كانت أميرة وملكة في بيتها وحصنها المنيع، فالمجتمع ملييء بالمشاكل والتعقيدات والمتصيدين والوحوش المفترسة.. ولو بقيت في بيتها، لكانت بمنأى عن كل ذلك، ولأحرزت الطمأنينة وراحة البال.. فليس الأمر بالهين أن تترك المرأة أولادها وبيتها الحصين.
نعم؛ ينبغي أن تحصل ربة البيت على مستوى جيد من الدراسة والثقافة التي تستطيع معها تدريس أولادها والاهتمام بهم وفق طرائق حديثة تناسب عقولهم وعصرهم الذي يحيون فيه.