قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “مَثَلُ عَلِيٍّ فِيكُمْ كَمَثَلِ اَلْكَعْبَةِ اَلْمَسْتُورَةِ اَلنَّظَرُ إِلَيْهَا عِبَادَةٌ وَاَلْحَجُّ إِلَيْهَا فَرِيضَةٌ”.
يكلّ اللسان، وتجف الأقلام، وتحير العقول عند الحديث عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب، كيف لا وقد ملأت فضائله الخافقين حتّى قال عمر: لقد أُوتِيَ عليّ بن أبي طالب ثلاث خصال لَأَنْ تكون لي واحدةٌ منهنّ أحبُّ إليّ من حُمْرِ النّعم؛ زوّجه ابنته فولدت له، وسدّ الأبواب إلّا بابه، وأعطاه الحَرْبَةَ يوم خيبر .
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: وما أقول في رجل تعزى إليه كلّ فضيلة وتنتهي إليه كلّ فرقة وتتجاذبه كلّ طائفة؟ فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرها وسابق مضمارها ومجلي حلبتها، كلّ مَن بزغ فيها بعده فمِنه أخذ وله اقتفى وعلى مثاله احتذى .
ولقد كتبت هذه الأسطر رجاء أن أُسجّل في ديوان من ذكر عليّاً ليشفع لي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا مَن أتى الله بقلب سليم، وقد قال رسول الله: ذِكْرُ عَلِيٍّ عِبَادَةٌ .
وقال: إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ لِأَخِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَضَائِلَ لاَ يُحْصِي عَدَدَهَا غَيْرُهُ، فَمَنْ ذَكَرَ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِهِ مُقِرّاً بِهَا غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَلَوْ وَافَى اَلْقِيَامَةَ بِذُنُوبِ اَلثَّقَلَيْنِ.
وَمَنْ كَتَبَ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لَمْ تَزَلِ اَلْمَلاَئِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لَهُ مَا بَقِيَ لِتِلْكَ اَلْكِتَابَةِ رَسْمٌ.
وَمَنِ اِسْتَمَعَ إِلَى فَضِيلَةٍ مِنْ فَضَائِلِهِ غَفَرَ اللهُ لَهُ اَلذُّنُوبَ اَلَّتِي اِكْتَسَبَهَا بِالاِسْتِمَاعِ.
وَمَنْ نَظَرَ إِلَى كِتَابَةٍ فِي فَضَائِلِهِ غَفَرَ اللهُ لَهُ اَلذُّنُوبَ اَلَّتِي اِكْتَسَبَهَا بِالنَّظَرِ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ : اَلنَّظَرُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عِبَادَةٌ، وَذِكْرُهُ عِبَادَةٌ، وَلَا يُقْبَلُ إِيمَانُ عَبْدٍ إِلَّا بِوَلاَيَتِهِ وَاَلْبَرَاءَةِ مِنْ أَعْدَائِهِ.
وأذكر هنا ثلاث فضائل لأمير المؤمنين على نحوٍ من الاختصار:
الفضيلة الأولى: حديث الطائر المشوي.
وهي من الفضائل العظيمة لأمير المؤمنين الدالّة على أنّه أفضل الخلق بعد رسول الله ، وأنّه الخليفة من بعده.
روى الشيخ الصدوق بسنده عن أبي هُدْبَة قال: رأيتُ أَنَسَ بن مالك معصوباً بعصابةٍ فسألته عنها.
فقال: هي دعوة علي بن أبي طالب.
فقلت له: وكيف يكون ذلك؟
فقال أنس: كنتُ خادماً لرسول الله فأُهدِيَ إلى رسول الله طائرٌ مشويٌ.
فقال : اَللَّهُمَّ اِئْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ وَإِلَيَّ يَأْكُلُ مَعِي مِنْ هَذَا اَلطَّائِرِ.
فجاء عليٌّ فقلتُ له: رسول الله عنكَ مشغولٌ. وأحببتُ أن يكون رجلاً من قومي -أي الذي دعا به رسول الله -.
فرفع رسول الله يده الثانية فقال: اَللَّهُمَّ اِئْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ وَإِلَيَّ يَأْكُلُ مَعِي مِنْ هَذَا اَلطَّائِرِ.
فجاء عليٌّ فقلت له: رسول الله عنكَ مشغولٌ. وأحببتُ أن يكون رجلاً من قومي.
فرفع رسول الله يده الثالثة فقال: اَللَّهُمَّ اِئْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ وَإِلَيَّ يَأْكُلُ مَعِي مِنْ هَذَا اَلطَّائِرِ.
فجاء عليٌّ فقلت له: رسول الله عنكَ مشغولٌ. وأحببتُ أن يكون رجلاً من قومي.
فرفع عليٌّ صوته فقال: وَمَا يَشْغَلُ رَسُولَ اللهِ عَنِّي؟
فسمعه رسول الله فقال: يَا أَنَسُ مَنْ هَذَا؟
فقلت: علي بن أبي طالب.
قال : اِئْذَنْ لَهُ.
فلمّا دخل قال له: يَا عَلِيُّ إِنِّي قَدْ دَعَوْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنْ يَأْتِيَنِي بِأَحَبِّ خَلْقِهِ إِلَيْهِ وَإِلَيَّ يَأْكُلُ مَعِي مِنْ هَذَا اَلطَّائِرِ، وَلَوْ لَمْ تَجِئْنِي فِي اَلثَّالِثَةِ لَدَعَوْتُ اللهَ بِاسْمِكَ أَنْ يَأْتِيَنِي بِكَ.
فقال عليٌّ : يَا رَسُولَ اَللَّهِ إِنِّي قَدْ جِئْتُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ يَرُدُّنِي أَنَسٌ، وَيَقُولُ: رَسُولُ اَللَّهِ عَنْكَ مَشْغُولٌ.
فقال لي رسول الله : يَا أَنَسُ مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟
فقلتُ: يا رسول الله، سمعتُ الدعوةَ فأحببتُ أن يكون رجلاً من قومي.
ثمّ قال أنس: فلمّا كان يوم الدار استشهدني عليٌّ عليه السلام فكتمته فقلتُ: إنّي نسيته .
فرفع عليٌّ يده إلى السماء فقال: اَللَّهُمَّ اِرْمِ أَنَساً بِوَضَحٍ -أي بَرَص- لاَ يَسْتُرُهُ مِنَ اَلنَّاسِ.
ثمّ كشف -أي أنس- العصابة عن رأسه فقال: هذه دعوةُ عليٍّ، هذه دعوةُ عليٍّ.
وهذا الحديث مشهور معروفٌ بين المسلمين رغم من حاول إنكاره وإخفاءه، وقد ذكر الذهبي أنّ رواة هذا الحديث أكثر من تسعين راوياً، إلّا أنّه لم يقبلها وذكر أنّها غرائب ضعيفة وطرق مفتعلة!
وهذا ليس بغريب ممّن أعمى الله بصيرته، وصدق عليه قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .
وممّا يبيّن عظمة هذه الفضيلة وأهميّتها أنّ أمير المؤمنين احتجّ بهذا الحديث على أبي بكر -ضمن حديث طويل- فقال له: فَأَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَنَا اَلَّذِي دَعَاهُ رَسُولُ اَللَّهِ لِطَيْرٍ عِنْدَهُ يُرِيدُ أَكْلَهُ فَقَالَ: اَللَّهُمَّ اِئْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ بَعْدِي، أَمْ أَنْتَ؟
قال أبو بكر: بل أنتَ .
الفضيلة الثانية: خاصف النعل.
انقطع شسع نعل رسول الله فدفعها إلى علي يصلحها، ثمّ مشى في نعل واحدة غلوة -أي مقدار رمية سهم- أو نحوها وأقبل على أصحابه فقال: إنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى اَلتَّأْوِيلِ كَمَا قَاتَلَ مَعِي عَلَى اَلتَّنْزِيلِ.
فقال أبو بكر: أنا ذاك يا رسول الله؟
قال : لَا.
فقال عمر: فأنا يا رسول الله؟
قال : لَا.
فأمسك القوم ونظر بعضهم إلى بعض.
فقال رسول الله : لَكِنَّهُ خَاصِفُ اَلنَّعْلِ -وَأَوْمَأَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -، وَإِنَّهُ اَلمُقَاتِلُ عَلَى اَلتَّأْوِيلِ إِذَا تُرِكَتْ سُنَّتِي وَنُبِذَتْ وَحُرِّفَ كِتَابُ اللهِ وَتَكَلَّمَ فِي اَلدِّينِ مَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَيُقَاتِلُهُمْ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى إِحْيَاءِ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وفي هذا الحديث دلالات واضحة على عظمة أمير المؤمنين ومكانته، وأنّه الخليفة بعد رسول الله ، وأنّه الحافظ لكتاب الله وشريعة رسوله من بعده، وأنّ الحقّ مع علي ابن أبي طالب، وأنّ من قاتله وخالفه على باطل.
وأيّ شرف أكبر من أن يصفّ النبيّ عليّاً فيقول: فَيُقَاتِلُهُمْ عَلِيٌّ عَلَى إِحْيَاءِ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟
وقد رُوي عن الإمام الباقر أنّه قال في تفسير قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}: وَلاَيَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، فَإِنَّ اِتِّبَاعَكُمْ إِيَّاهُ وَوَلاَيَتَهُ أَجْمَعُ لِأَمْرِكُمْ، وَأَبْقَى لِلْعَدْلِ فِيكُمْ .
وحديث خاصف النعل حديث مشهور بين المسلمين أجمع، فقد رواه الخاصّة والعامّة بعدّة طرق وأسانيد ، ويبدو من تتبّع الروايات والأخبار أنّ الحادثة قد وقعت أكثر من مرّة .
الفضيلة الثالثة: قسيم الجنة والنار.
وهذه الفضيلة من أشهر فضائل أمير المؤمنين وأبرزها، ومن دلالات هذه الفضيلة أنّ أمير المؤمنين هو الفاروق بين الحقّ والباطل؛ إذ لا يمكن أن يكون قسيم النار إلّا من كان مع الحقّ يدور معه حيثما دار.
ومن جميل ما رُوي في هذه الفضيلة قصّة المأمون العباسي مع الإمام الرضا ، فقد روى أبو الصلت الهروي أنّ المأمون قال يوماً للرضا : يا أبا الحسن، أخبرني عن جدّك أمير المؤمنين بأيّ وجهٍ هو قسيم الجنّة والنّار؟ وبأيّ معنى؟ فقد كَثُرَ فكري في ذلك.
فقال الإمام : يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَلَمْ تُرْوَ عَنْ أَبِيكَ عَنْ آبَائِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهَ يَقُولُ: حُبُّ عَلِيٍّ إِيمَانٌ وَبُغْضُهُ كُفْرٌ؟
فقال المأمون: بلى.
فقال الرضا : فَقِسْمَةُ اَلْجَنَّةِ وَاَلنَّارِ إِذَا كَانَتْ عَلَى حُبِّهِ وَبُغْضِهِ فَهُوَ قَسِيمُ اَلْجَنَّةِ وَاَلنَّارِ.
فقال المأمون: لا أبقاني اللهُ بعدك يا أبا الحسن، أشهد أنّك وارث علم رسول الله.
قال أبو الصلت الهروي: فلمّا انصرف الرضا عليه السلام إلى منزله أتيته فقلت له: يابن رسول الله، ما أحسنَ ما أجبتَ به أمير المؤمنين.
فقال الإمام : يَا أَبَا اَلصَّلْتِ إِنَّمَا كَلَّمْتُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ آبَائِهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : يَا عَلِيُّ أَنْتَ قَسِيمُ اَلْجَنَّةِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، تَقُولُ لِلنَّارِ: هَذَا لِي وَهَذَا لَكِ.
وأختم كلامي بقول أمير المؤمنين، عليه السلام، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اِكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ، أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاِجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ.
اللهم ثبّتنا على ولاية أمير المؤمنين ، واجعلنا ممّن يقتدي به ويستضيء بنور علمه.