كل إنسان هو مستقل عن غيره فيما يرتبط بجسمه، فلا ارتباط بين جسم وآخر منذ الولادة وحتى الوفاة.
فدمك لا يجري إلا في اوداجك، وأنسجتك لا ترتبط إلا بأعضائك، وعظامك لا تخدم إلا لحمك، فالإنسان من هذه الناحية يعيش عالَما خاصا به فقط، وكما في أعضاء جسمه كذلك في رغبته وشهواته وجوعه وعطشه.
ولذلك فإن لذّة غيرك لا تنتقل إليك، وإذا شبع غيرك لا تشبع انت، وكذلك إذا مرض غيرك لا تمرض انت، وإذا تألم لم تتألم أنت، فلكل إنسان عالمه المتفرّد به، ولا يشاركه أحد في ذلك.
وهنا يبرز سؤال: ما هو إذن الشيء الذي يمكن ان يميّز إنسانا على آخر؟
فعضلاته لا تميزه، لان كثيرا من الرياضيين يماثلونه فيها، وإنّ دوره ينتهي إذا برز من هو أقوى منه، فما الذي يميزه إذن؟
والجواب: الذي يميزه هو خروجه من صندوق عالمه الصغير الى المجال الاوسع، والآفاق الرحبة التي تضم البشرية جمعاء.
فكما أن لي شخصيتي الخاصة بي التي تعلم بضعفي، وقوتي، وامكاناتي، وتطلعاتي، ورغباتي، وشهواتي، كذلك فإن لي شخصيتي الاخرى هي شخصية الانسانية جمعاء.
وكلما نجح الانسان في الانفلات من قيوده الضيقة واستطاع الخروج من القمقم الصغير الذي يحدد شخصيته، الى العالم الرحب الذي يضم كل الناس كلما اصبح متميزا عن الآخرين وظهرت مواهبه وقدراته.
العطاءات التي تبقى وتخلد هي التي تكون للغير، لان الخلود للعمل لا للجسد، مهما اوتي المرء من قوة ومال وجاه ونسب
ولا نقصد بالامتيازات في مجال الحَسب والجمال وما اشبه، فتلك امور زائلة، فجمال المرأة يزول ببطء، وسيرى العاشق بعد سنين ان محبوبته التي كان يطارد وراءها، ليست بملكة جمال العالم، وإنما هي كسائر النساء في شكلها ومفاتنها وقوامها، طبعا هذا فيما إذا حصر نظرته في الجانب الجسدي فقط.
إن الامتياز لا يكون إلا بأمور ترتبط بغير جسمه، أي بما يتربط بإنسانيته، وما يرتبط بالآخرين، ولذلك فإن الدِين يطالبنا بأن نفكر كمجموعة وان نتحسّس آلام الناس، وان نبذل كل شيء في سبيل الامة بدافع من نكران الذات، أن يخرج أحدنا من إطار الذات الضيقة ويذوب ذوبانا صالحا في المصلحة العامة، كالشمعة التي تذيب نفسها من أجل ان تضيء الطريق للآخرين.
وأوضح أمير نموذج هو أمير المؤمنين، عليه السلام، الذي كان يتحسّس آلام أهل العالم، وكان يفضّل راحة الآخرين على راحته، ويقدم مصالحهم على مصلحته، ويقول: “ولو شئت لاهتديت الطريق الى مصفّى هذا العسل، ولُباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات هيهات ان يغلبني هواي، ويقودني جشعي الى تخير الاطعمة، ولعل بالحجاز او اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع”. (نهج البلاغة، الكتاب رق:45).
إن الامام أمير المؤمنين، عليه السلام، كان يجوّع نفسه لان هنالك مجرد احتمال ان يكون هناك جائع في بقعة من بقاع الارض لا يجد ما يأكله، فالإمام عليه السلام، كان يرى نفسه مسؤولا عن البشرية جمعاء، وهذا من اسباب عظمته في هذه الحياة.
نحن بحاجة الى الخروج من دائرة الذات ومن الاهتمام بهذا الجسم الصغير المحدود، الى مجال الانسانية المترامي الاطراف والمكتظ بالاشخاص، والى امتلاك الصفات الانسانية.
فالعطاءات التي تبقى وتخلد هي التي تكون للغير، لان الخلود للعمل لا للجسد، مهما اوتي المرء من قوة ومال وجاه ونسب.
الدِين يطالبنا بأن نفكر كمجموعة وان نتحسّس آلام الناس، وان نبذل كل شيء في سبيل الامة بدافع من نكران الذات، أن يخرج أحدنا من إطار الذات الضيقة ويذوب ذوبانا صالحا في المصلحة العامة، كالشمعة التي تذيب نفسها من أجل ان تضيء الطريق للآخرين
وكلما كان العطاء اوسع كان ثوابه اعظم بخلاف الشخصية التي تكون لها رغبة تذلّها، فهي لا تتميز عن الشخصيات الاخرى فيما يرتبط برغباتها وشهواتها، ففي روح الشخصية الانانية خرق قد يسقط صاحبها في أي وقت او ظرف، وامام ابسط الهزّأت والاختبارات، وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق، عليه السلام: “ما اقبح بالمؤمن ان تكون له رغبة تذلّه”.
فما دام الانسان يمتلك في آن واحد رغبة وشخصية انسانية، فإن عليه توظيف تلك الرغبة من اجل الانسانية جمعاء.
فإذا رأيت نفسك تتمحورحول لذّة معينة فاقطعها، لانها سوف تجرّك الى الهاوية التي لا يعلم عمقها الا الله تبارك وتعالى.
فالشهوات والرغبات واحدة من نعم الله علينا، وليس مطلوبا منّا إلغاؤها، وإنما علينا ان نهمين عليها، ونوجهها توجيها صحيحا بحيث تصب في مصلحة الانسانية لا في قوقعة الانانية الضيقة.
إن المطلوب شخصية إنسانية تعمل للجميع، وليس شخصية متقوقعة على ذاتها، وتعمل لنفسها فقط، فالانسانية هي التي تميز الاشخاص بما يملكون من صفات نفسية عالية، وحب للناس الى درجة البكاء على الاعداء، كما بكى سيد الشهداء، الإمام الحسين، عليه السلام، على اعدائه في يوم الطف، فبمثل هذه الروح الانسانية الوضاءة تبنى الحضارات وتسود الإمم وتتقدّم البشرية.
_____________
(مقتبس من كتاب “كيف تبني شخصيتك” لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).