شقّ لنا الإمام الصادق، عليه السلام، رافداً عظيماً يمتزج فيه العلم مع الأخلاق، ويلتقي الجهد الذهني والعقلي بالجهد النفسي لتنمية الملكات الاخلاقية والروحية، وهو استحقاق اجتماعي وثقافي خلقه تطور المجتمع بفضل التوسّع الاسلامي في مشارق الارض ومغاربها، والتلاقح الثقافي الحاصل مع الشعوب الأمم، واحتمال تأثر الاخلاق والآداب الاسلامية بما موجود في تلك البلاد، لاسيما اذا عرفنا أن بني العباس منذ المنصورالدوانيقي، ومن بعده هارون والمأمون عملوا بحرص واضح على تمييع الثقافة الاسلامية وتشويش الاذهان بأفكار مستوردة لا علاقة لها بالقرآن الكريم، ولا بسنة رسول الله، صلى الله عليه وآله.
الأخلاق جهدٌ فردي
اذا كان الإمام الصادق، هو الذي يضخ العلوم والمعارف في كيان الأمة، فإنه، عليه السلام، ألزم تلامذته وأصحابه المقربين بأن يتولوا مسؤولية ضخ الأخلاق بانفسهم في أوساطهم الاجتماعية، حتى يتميزوا عن سائر من أوتي العلم من قبلهم في العالم بامتلاك العلم والأخلاق، فقد بلغ الانسان منذ آلاف السنين مراتب من العلم جعلته يرتقي في الاسباب، كما يعبر القرآن الكريم، ويخلق تحفه معمارية لا نظير لها على وجه الأرض في أرض مصر الفرعونية، بيد أن هذا البناء الهندسي الدقيق للاهرامات الثلاثة كان بثمن كرامة وحياة عشرات الآلاف من العمال والعبيد الذين سحقوا تحت العجلات التي نقلت مواد البناء ليصل الى هذا الحد الشاهق فيزهو به فرعون مصر ويستشعر شيئاً من العلو على ما جاء به نبي الله موسى، عليه السلام.
مدرسة الامام الصادق غايتها القصوى خدمة الانسانية وليس خدمة العالِم لنفسه
وهكذا سائر المنجزات العلمية منذ فجر التاريخ، فلم ير الانسان أية نسمة تواضع او شفقة، او رحمة، إحسان، وسائر الفضائل والمكارم من رجال العلم والمعرفة من أقصى شرق الارض الى غربها، حتى بزغ فجر الاسلام على البشرية وعرفت بوجود العلاقة بين العلم والأخلاق، وأن ثمة امكانية حقيقية أن يكون الانسان عالماً في الطب، والهندسة، والفلك، وسائر العلوم الطبيعية والانسانية، وفي الوقت نفسه؛ يكون متواضعاً، وصادقاً، وأميناً على ارواح الناس وكرامتهم وحقوقهم، وهذا لا يتم في مدرسة أو جامعة، وإنما هو جهد فردي بالدرجة الاولى، الى جانب الجهد التربوي في الأسرة والمحيط الاجتماعي، وهذا ما كان يوصي به الامام الصادق أصحابه والمقربين منه.
نقرأ في المصادر أن بين اربعة آلاف الى خمسة آلاف تلميذ كانوا يجلسون في دروس الامام الصادق، وكلهم كانوا ينتشرون في الآفاق يقولون: “حدثني جعفر بن محمد”، ولكن من كان هؤلاء؟ ربما معظمهم لم يكونوا من اتباع الامام، ولا اتباع أهل بيت رسول الله، إنما كان يحضرون للنهل من علوم السماء الجارية على لسان الامام الصادق بما لا يسمعوه من سواه مطلقاً، ولذا كان يقول: “اقرأ على من ترى يطيعني منهم، ويأخذ بقولي، السلام، وأوصيكم بتقوى الله –عزوجل- والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد، صلى الله عليه وآله”.
وكان يوصي اصحابه عندما ينتشرون في الآفاق بأن: “صلوا عشائركم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فان الرجل منكم اذا وَرِع في دينه، وصدق الحديث، و أدى الامانة، وحَسَن خُلُقَه مع الناس قيل: هذا جعفري، فيسرّني ذلك، ويدخل عليّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، واذا كان غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جفعر”.
وفي رواية جميلة ومعبرة تؤكد لنا مدى حرص الإمام الصادق على الصورة الناصعة لمدرسة أهل البيت أمام سائر المدارس في الأمة، فقد روي أن شخصاً يدعى الشقراني، ويبدو أنه كان يدنو من الخمر احياناً، فطلب المساعدة المالية من الامام فأعطاه وأجزل له، ثم قال له، عليه السلام: ياشقران! إن الحسن من كل أحد حسن وإنه منك أحسن لمكانك منا، وإن القبيح من كل احد قبيح ومنك أقبح لمكانك منا”.
الأخلاق شرطٌ للتعلّم
لم يكن الإمام الصادق، عليه السلام، الوحيد الذي يروي عن رسول الله، فقد كان الكثير من دعاء الحديث والرواية ينتشرون في الامصار، بيد إن ما كان يميز حلقات درس الامام تضمينها لدرس الأخلاق لتكون قرينة للعلم والمعرفة، فقال ذات مرة للمقربين من اصحابه: “من جاءنا يلتمس الفقه والقرآن وتفسيره فدعوه، ومن جاءنا يبدي عورةً قد سترها الله فنحّوه”.
اذا كان الإمام الصادق، هو الذي يضخ العلوم والمعارف في كيان الأمة، فإنه، عليه السلام، ألزم تلامذته وأصحابه المقربين بأن يتولوا مسؤولية ضخ الأخلاق بانفسهم في أوساطهم الاجتماعية، حتى يتميزوا عن سائر من أوتي العلم من قبلهم
فمدرسة الامام الصادق غايتها القصوى خدمة الانسانية وليس خدمة العالِم لنفسه، والعورة الواردة في الرواية تعني كل ما يحرص الانسان إخفائه عن الآخرين لأي سبب كان، “فما كان هدف اصحاب وتلاميذ الامام الصادق، الرياء والسمعة والشهرة، ولا تحصيل شهادة التخرج من تلك المدرسة، كشهادة الدكتوراه، او الماجستير، بل كان هدفهم الاول والاخير؛ التعلّم، ثم خدمة الدِين، وكان الامام يقدم الى اصحابه –في سبيل التعلم- أحسن التعليمات وأثمن المواعظ والنصائح، وكان يأمرهم بالامانة والصدق قبل تعلّم الحديث”. (الامام الصادق، من المهد الى اللحد- السيد محمد كاظم القزيني).
وإن نقرأ في كتب الرواية والتاريخ في سيرة الامام الصادق، أسماء لامعة من أولئك التلاميذ الأبرار دون غيرهم من آلاف التلاميذ فمردّه الى تلك المراتب العالية التي بلغوها من الملكات الاخلاقية والروحية في مدرسة الامام الصادق، من أمثال زرارة بن أعين، وهشام بن الحكم، وجابر بن حيان، ومحمد بن مسلم، كانوا أقرب الى الناس وأفراد الأمة من الحكام والساسة، ومن مغرياتهم المادية الجاذبة لكثير من علماء ذلك الزمان ممن لم يتورعوا عن ارتكاب كل خطيئة بحق المسلمين والاسلام لإرضاء الحاكم والحصول على حفنة من الاموال.