ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (38) بين رذيلتين تقع الفضيلة

قال أمير المؤمنين، عليه السلام: كن سمحا ولا تكن مبذرا وكن مقدرا ولا تكن مقترا”.

في المقال السابقة من هذه السلسلة تعرضنا لبيان مفردتين هما “التبذير والتقتير”، وفي هذه المقال بيانٌ “السماحة والتقدير”.

السماحة التي يأمر بها أمير المؤمنين، عليه السلام، هي وسط بين رذيلتين؛ بين البخل وبين الاسراف، وكل فضيلة وسط بين رذيلتين، يقال ان رجلا كان يملك عبدا كبيرا في السن وكان لا يقوى على الخدمة، فقال لمولاه: اطلقني في سبيل الله.

فقال المولى: هناك ديك. اذبحه، فإذا طبخته بشكل جيد واكلتُ منه، فسأطلقك في سبيل الله، فقام العبد وطبخ الديك (ماء لحم)، فشرب المولى ماء اللحم وترك الديك، فقال: اعمل لنا من الديك شلّة( اكلة عراقية)، فأكل منها قليلا وترك شيئا، وطلب من العبد ان يطبخ الباقي هريسة، فالتفت العبد اليه وقال: مولاي لا اريد ان تطلق سراحي، رجاءً اطلق سراح الديك”.

⭐ المال قد يكون قليلا وتأثيره في الواقع الخارجي لا يكون إلا جزئيا، إلا ان المال القليل حينما يُعطى في سبيل الله بنفس سخيّة تكون له القيمة عند الله

السماحة أن يعطي الانسان، قال ــ تعالى ــ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}، تلا الإمام الصادق، عليه السلام، هذه الآية فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده، قال: هذا الأقتار الذي ذكر الله في كتابه، ثم قبض قبضة أخرى فأرخى كفه كلها ثم قال: هذا الاسراف، ثم أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها وقال: هذا القوام”.

الاسلام يجعل للانفاق معنى مقدسا، فالقضية ليست جعل حلا للمسألة المالية والاقتصادية، وإنما المسألة إلهية؛ فالله هو الذي اعطى الانسان وهو الذي يطلب منه الانفاق، قال ــ تعالى ــ: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}، التاريخ يثبت ان الله كان يفعل مع الطغاة والبخلاء؛ أن يأخذ منهم الحكم ويعطه للثوار الكرماء، وياخذ من البخيل المال ويعطه للكريم {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ}، فالحكم يبقى مع العدل لا مع الظلم، والمال يبقى مع الكرم، ولا يبقى مع البخل.

ويعد الاسلام الذي لا ينفق في سبيل الله مهلِكا لنفسه، قال ــ تعالى ــ: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

المال شأنه شأن أي شيء في هذه الارض لا لون له، ولا قيمة لوجوده هنا او هناك، وسواء وجد المال في يد المحتاج او في يد مَن لا يحتاج اليه، هذا لا يغير شيئا عند الله، إنما تلك النفس حينما تسخو بالمال لها قيمتها عند بارئها، بينما حينما يشح إنسان بالمال حينئذ يكون عند الله مأثوما، أي ان الله يمحن العباد بالمال.

والذي يسخو بالمال في الواقع لا يجعل المال في مكانه الصحيح فحسب، ولربما هذه النتيجة هي المطلوبة في الدرجة الاولى، إنما ارتفاعه على الطمع وحب المال هو الذي يجعل لعمله قيمة مقدسة الهية عند الله، ولذلك فإن الحجم ليس مطروحا، فالمال قد يكون قليلا وتأثيره في الواقع الخارجي لا يكون إلا جزئيا، إلا ان المال القليل حينما يُعطى في سبيل الله بنفس سخيّة تكون له القيمة عند الله، لا لان نصف دينار يصنع شيئا، وإنما نصف دينار يأتي من قبل انسان لا يملك غيره، فاعطاؤه لنصف دينار يساوي ان يعطي انسان مليار دينار كل ما يملك، فكلاهما بحاجة الى ارتفاع الروح، وانخلاع الانسان من التعلق بالمال.

⭐ الآيات او الروايات لا تتحدث عن عطاء مال بحجم زائد او ناقص، إنما حديثها عن السخاء والشُح كحالة  نفسية عند الانسان فيما يرتبط بالمال

وفيما يرتبط بالأخماس والزكوات؛ لا يعيّن الله حجما، إنما يعين نسبة، سواء كان في الخمس او الزكاة، فإنسان لا يملك إلا دينار فخُمسه  100 فلس، فهذا يشبه من كان يملك خمسة ملايين وخُمسُه مليون فالنتيجة واحدة.

القلب متعلق بالمال سواء كان قليلا أم كثيرا، ولذا نجد الآيات او الروايات لا تتحدث عن عطاء مال بحجم زائد او ناقص، إنما حديثها عن السخاء والشُح كحالة نفسية عند الانسان فيما يرتبط بالمال، فإما حالة الاسخياء، وإما حالة الاشحاء.

مسألة السخاء والكرم ليست مرتبطة بالاغنياء حتى لا يقول شخص: كيف تخاطبي بأن اعطي! والروايات في هذا الجانب انما تريد بيان حالة السخاء والنفس الكريمة والمعطاءة، وكذلك في مسألة البخل؛ فالروايات ليس موجهة لمن يبخل بالملايين، إنما هي موجهة لمن يبخل بالفلس الواحد، قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “البخيل من بخل بالسلام”، فمن لا يملك مالا لينفقه ألا يملك لسانا يحركه بالسلام، فالسلام عطاء وهو كلمة طيبة يعطيها انسان لغيره، وقال رسول الله: “البخيل كل البخيل من ذُكرت عنده ولم يصلِ عليَّ”.

وهنا قيمة التربية في العطاء؛ فالله ـ تعالى ــ يعطي الانسان بمقدار ارتفاعه عن المال، فأمير المؤمنين، عليه السلام، حينما جاءه سائل، ادخل يده في جيبه ثم توقف قليلا، واعطى السائل وقال: خذها وأنا علي بن ابي طالب، فسأله اصحابه لما قلت ذلك؟

فقال عليه السلام: جاءني الشيطان ووسوس أن لا اعطي، فقلت: خذها للسائل، وللشيطان: وانا علي بن ابي طالب.

و سورة كاملة أنزلها الله في حق علي وفاطمة والحسن والحسين، لانهم تصدقوا على مسكين ويتيم وأسير، فال مسألة ليست بعدد اقراص الخبز التي انفقوها، وإنما حجم الروح المرتفعة، ولذا لم يسجل القرآن الكريم عن حجم الانفاق، ولا عن قضية شبع السائلين، لان القرص ربما لا يشبع، ولكن الحالة النفسية المرتفعة عند الإمام وأهل بيته.

وحينما يصل المال الى يد الانسان يحمله مسؤولية وهي كيف وأين يجب ان يضع المال، فقد يقول البعض: المال مالي اضعه اين اشاء، وهذا تصور خاطئ، فحين يملك الفرد عينين فإن الله ــ تعالى ــ يحمله مسوؤلية بمقدارهما، وكذا حين يمتلك سيارة فهناك مسؤولية بحجمها.

فليس من حق أي احد ان يصرف المال كيف ما يريد، “كن مقدرا” فالتقدر علامة من علامات وجود الله، {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} والكون قائم على التقدير، والاسلام نزل في ليلة القدر والتقدير، والمؤمن في حياته مقدرا يضع كل شيء في مكانه.

والروايات التي جاءت لتتحدث عن الانفاق انما لانه صفة مقدسة وقضية انسانية واسلامية، وبصفته نافع للشخص ــ المنفِق ــ نفسه، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “من عمل الخير فبنفسه بدأ”، وقال الإمام الصادق، عليه السلام: “صنائع المعروف تقي مصارع السوء”، فالحوادث المؤسفة التي لم يحسب لها الانسان تقيها صنائع المعروف.

⭐ حينما يصل المال الى يد الانسان يحمله مسؤوليةً؛ وهي كيف وأين يجب ان يضع المال

وقال الإمام الباقر، عليه السلام: “البر والصدقة ينفيان الفقر ويزيدان في العُمر ويدفعان عن صاحبها سبعين ميتة سوء”.

أما ماذا ينفق الانسان؟

 وعلى ماذا؟

وأين؟

يجيب على ذلك أمير المؤمنين، عليه السلام: “من كان له مال فليصل به القرابة وليحسن منه الضيافة وليفك منه العاني والاسير وابن السبيل فان الفوز بهذه الخصال مكارم الدنيا وشرف الآخرة”.

وسأل ابو بصير الامام الباقر، عليه السلام: “أي الصدقة افضل؟ فقال عليه السلام: “جُهد المُقل” أما سمعت قول الله ــ عز وجل ــ يقول: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وقال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

إن قيمة الانسان في العطاء ليس بحجم اعطائه إنما بارتفاعه عن الشح والبخل، فالاسلام لم يجعل مقياس الكرم والبخل بحجم العطاء، وإنما المقياس هو خروج الانسان من شحه وانفاقه بالقدر الذي يستطيع، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “لا تستحِ من اعطاء القليل فإن الحرمان أقلَّ منه”.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا