في هذا العصر الرقمي تعاني البشرية من عدد من الأزمات العالمية، وربما أوضحها، وأفضحها هي الأزمة القيَمية الأخلاقية، فالحضارة الرقمية قيمة الأخلاق فيها صفر؛ أي بلا قيمة أصلاً.
وما تعانيه البشرية على هذه الكرة الترابية هي ضياع قيمة الإنسان الذي جعله الخالق –تعالى- علَّة الخلق والتكوين ربما لكل الكائنات كما في الحديث القدسي: (يا بن آدم، خلقتُ الأشياء لأجلك، وخلقتُكَ لأجلي) (علم اليقين للفيض الكاشاني: ج 1 ص 381)
وربنا سبحانه يقول في كتابه الحكيم: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء: 70)
أي أنه جعله مخلوقاً له كرامة، وفضل، ومكانة في هذه الحياة، فإذا فقد هذه الصفة فيه يفقد علَّة خلقه، ومبررات وجوده في هذه الدنيا، وجِمَاع هذه الصفات يمكن لنا أن نقول: إنها الإنسانية؛ وهي الجوهرة الخفية التي لا يمكن لإنسان أن يصدق عليه هذا الوصف إذا فقدها أو جُرِّد منها في ظرف من الظروف -كما يجري في كثير من المجتمعات الآن– فهو يتحوَّل إلى شيء آخر له شكل الإنسان، ولكن بلا مضمون، ولا جوهر، ولا قيمة، ولا فضيلة، ولا إنسانية.
وبينما كنتُ أكتبُ هذا المقال وجدتُ مقالاً عن كتابٍ لفتَ نظري بعنوانه المثير وهو: “نظام التفاهة”، أو “سيطرة التافهين” للكاتب والفيلسوف الكَنَدي ألان دونو، والذي يخلص فيه إلى: “أن التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم وسيطروا على عالمنا وكرتنا الترابية”.
حيث يؤكد دونو أن التافهين قد حسموا المعركة من دون اجتياح “الباستيل” -إشارة إلى الثورة الفرنسية، عندما اجتاح الثوار سجن الباستيل-، ولا حريق الرايخشتاغ (البرلمان الالماني) في حقبة النازية وصعود هتلر، ولا رصاصة واحدة من معركة «الفجر»، وهي المعركة الأسطورية بين بونتا وبراكمار، بين البرتغال وإسبانيا، فقد ربح التافهون الحرب فعلاً وسيطروا على عالمنا الرقمي، وباتوا يحكمونه بتفاهتهم.
ولذا تجد أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية المؤلف يُعطي نصيحة في بداية كتابه يقول فيها: «لا لزوم لهذه الكتب المعقَّدة.. لا تكن فخوراً، ولا روحانياً، فهذا يُظهرك متكبِّراً.. لا تُقدِّم أي فكرة جيدة، فستكون عرضة للنقد.. لا تحمل نظرة ثاقبة، عليك أن تكون قابلاً للتعليب.. لقد تغيَّر الزمن.. فالتافهون أمسكوا بكل شيء»!
ثم يقول: «لقد صار الشأن العام تقنية استهلاكية لا منظومة قيم، ومبادئ، ومفاهيم، عليا. واختلط مفهوم المصلحة العامَّة مع المصالح الخاصَّة للأفراد.. فجامعات اليوم التي تموّلها الشركات، صارت مصنعاً للخبراء لا للمثقفين”!
حتى أن رئيس جامعة كبرى، قال مرة: “إن على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات”، ولا مكان للعقل النقدي، كما قال رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الضخمة: “إن وظيفته هي أن يبيع للمعلِن الجزء المتوفر من عقول مشاهديه المستهلكين”! فصار كل شيء سلعة، والأدهى؛ أن الإنسان صار للاكتفاء، أو حتى لإرضاء حاجات السوق.
-
من خلق التفاهات في العالم؟
وإذا سألت الرجل عن أسباب هذا التحوُّل، يُرجع ذلك إلى عاملين اثنين فقط، هما:
الأول: اقتصادي بحت يعزوه دونو إلى تشوُّه مفهوم العمل في المجتمعات المعاصرة، فيقول: “إن المهنة صارت وظيفة، وصار شاغلها يتعامل معها كوسيلة للبقاء لا غير”، ولذا نسمِّي ما نأخذه من راتب في آخر الشهر “معاش”، ومَنْ يُحال منَّا إلى التقاعد يُحال لـ”المعاش” لأنهم يُعطونه بما يكفل حياته بالحدِّ الأدنى للعيش فقط.
الثاني: سياسي لأنه مرتبط بعالم السياسة ومجال الدولة والشأن العام، وهنا بدأت سيطرة التافهين فيقول: “ولدت جذور حكم التفاهة مع عهد مارغريت تاتشر(رئيس وزراء بريطانيا)، ويقول: “أنه يومها جاء التكنوقراط إلى الحكم، فاستبدلوا السياسة بمفهوم “الحكومة”، واستبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم “المقبولية المجتمعية”، والمواطن بمقولة “الشريك”، في النهاية صار الشأن العام تقنية «إدارة»، لا منظومة قيم، ومُثُل، ومبادئ، ومفاهيم عليا، وصارت الدولة مجرد شركة خاصَّة، وصارت المصلحة العامة مفهوماً مغلوطاً لمجموع المصالح الخاصة للأفراد، وصار السياسي تلك الصورة السخيفة لمجرد الناشط لمصلحة حزبه”.
من هذين المنطلقين، جرى تنميط العمل، وتسويقه، وتشييئه، فصار بلا قيمة ذاتية له، فالقيمة لما يردَّه عليك بالاقتصاد، والراتب الشهري، كما جرى تفريغ السياسة من مفهومها واهتمامها بالشأن العام؛ للمجتمع والأمة والشعب، فصارت التفاهة نظاماً كاملاً على مستوى العالم.
هذا هو جوهر المشكلة القيمية في هذا العصر الرقمي الذي جعل الإنسان سلعة للاستهلاك المحلي والعالمي أيضاً، فصارت هناك شركات عابرة للقارات، وأشخاص عابرين لكل الحدود والأراضي والقوميات، بما يستطيع أن يفعله في أي شعب من شعوب العالم، بما يسمونه “ـصناعة العقول والتحكم بالرأي العام” لذي يتحكم به عدَّة أشخاص يمتلكون هذه الإمبراطوريات الإعلامية والإعلانية العالمية ولا نستغرب أن معظمهم من اليهود كالأسترالي روبرت مردوخ.
وهكذا تم خلق نظام حكم التافهين في عصر التوافه، هذا النظام الذي يضع ثمانين في المئة من أنظمة الأرض البيئية عُرضةً لأخطار مدمرة له بنظام استهلاكهم الجشع، ويسمح لخمسين في المئة من خيرات هذا الكوكب بأن تكون حكراً على واحد في المئة فقط من أثريائه.
وكل ذلك لأن الاقتصاد جعلنا سلعةً وشيئا رخيصاً في السوق، والسياسة جعلتنا أدوات الطغاة للتحكم والسيطرة علينا وعلى الآخرين، فانقلبت المفاهيم القيمية، ولم يعد قيمة لمفهوم القيمة، ولا فضيلة لمعنى الفضيلة، بل صارت الفضيلة بترك الفضيلة، والأخلاق بهجر الأخلاق، لأن الأخلاق بضاعة الضعفاء، والفقراء، الذين لم يستطيعوا التطاول على أموال وأنفس الآخرين..
هكذا صارت حياتنا الاجتماعية بصورة عامة لأنها تحاول أن تقلد الغرب عامة والأمريكي خاصة بثقافته، وعاداته، وتقاليده البعيدة كل البعد عن القيمة والفضيلة.
وما يجرونه الآن على أرض العراق من برامج – لا سيما الشباب والفتيان – هو أخطر من القنابل النووية عليه، لأن القنابل تدمِّر الماديات، وهذه تدمِّر وتقضي على المعنويات، والإرث الثقافي، والديني، والفكري، والحضاري لشعبنا في العراق..
فهذا غزو من داخلنا بأخذ شبابنا فيعلموهم ويروهم كل أنواع الفساد والتحلل القيمي، ويُعيدوهم إلينا لينشروا هذا البلاء، والفيروسات المدمرة في المجتمع، فلن تمضي سنوات إلا وتجد المدن العراقية تضجُّ بتلك المناظر الهبِّيَّة والأشكال الغريبة، كعبدة الشيطان وغيرهم، إذا لم ينتبه الأخوة المسؤولين على هذا الخطر الدَّاهم، والأهل الكرام الذين نوجِّه لهم صرخة توقظهم من غفلتهم..
-
الحل الأمثل لهذه الأزمة العالمية
وتسأل: كيف يمكن مواجهة حكم التافهين هذا؟
يجيب دونو: ما من وصفة سحرية؛ فالحرب على الإرهاب أدت خدمة لنظام التافهين!
وينبِّه من «ثورة تخديرية» جديدة، غرضها تركيز حكم التفاهة في العالم.
ثم يقول: المطلوب أن نقاوم التجربة والإغراء وكل ما لا يشدنا إلى فوق، ألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا، بل المفاهيم الكبرى هي القائدة، وأن نعيد معاني الكلمات إلى المفاهيم القيمية مثل المواطنة، والشعب، والنزاع، والجدال، والحقوق الجمعية، والخدمة العامة، والقطاع العام، والخير العام. وأن نعيد التلازم بين أن نفكر، وأن نعمل”.
وهنا ما أجمل قول أمير المؤمنين عليه السلام : (تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشَيَّةً، وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً، لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدىً، وَلاَ عَلَمٌ يُرَى، نَحْنُ أَهْلَ الْبِيْتِ مِنْهَا بنجاة، وَلَسْنَا فِيهَا بِدُعَاة) (النهج:92)
وكأن أمير المؤمنين عليه السلام يعيش معنا في هذا العصر الأغبر، ويرى ما نحن فيه من فتن شوهاء مظلمة، ولكنه يُعطينا الدواء بالمنهج القويم، والفكر السلم؛ (نحن أهل البيت منها بنجاة)، فإن أردنا النجاة من هذا البلاء، وهذا الغزو علينا بالتمسك بأهل البيت عليهم السلام فكراً ومنهجاً، علماً وعملاً.
وهنا تجد عطش العالم لفكرنا، ومناهجنا الإسلامية عامة، وفكر وقيم مناهج أهل البيت عليهم السلام خاصَّة، فالنجاة هو ركوب سفينة النجاة: (مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح مَنْ ركبها نجا)، كما أننا في أيام السفينة الأوسع، سفينة الإمام الحسين عليه السلام التي تسع الجميع، وكل أهل الخير – وما أكثرهم – في مجتمعنا ولله الحمد والفضل..
وليكن هذا الموسم الحسيني المبارك موسماً لإعطاء الأمة الفكر القيمي، والأخلاقي الحضاري، لإعادتها إلى دينها وكتاب ربها ببركة الإمام الحسين عليه السلام،الذي ضحى بنفسه المقدسة، وكل ما لديه في هذه الحياة في سبيل تحقيق القيم وترسيخ الفضائل في هذه الحياة، وإلا فما معنى قوله – روحي له الفداء -: (هيهات منَّا الذِّلة يأبى الله لنا ذلك والمؤمنون)؟
فما أجدرنا بهذه الثورة المباركة التي فجَّرها إمامنا السبط سيد الشهداء فينا وهي التي تعيدنا إلى جادة الصواب إذا انحرفنا، وترسِّخ قيمنا في المجتمع إذا تخلَّى بعضنا عنها في زحمة الحياة المعاصرة، فعظمة الثورة الحسينية أنها ثورة قيَمية بامتياز، جاءت بزمن حاكم تافه أراد أن تحكم التفاهة في الأمة فرفض الإمام الحسين عليه السلام ،إلا أن تحكم القيمة والفضيلة بأعلى وأسمى صورها ألا وهي القيم الدينية والإيمانية فيها، فقام بثورة عظيمة ضد حكم التوافه الأموية، والحري بنا أن نعيد تلك القيم إلى حياتنا بإحياء الشعائر الحسينية، والقيم الراقية للنهضة المباركة.
وهذه رسالة وواجب العلماء والخطباء وأصحاب الفكر والقلم والشعر والنثر والمواكب الحسينية بأن ينثروا تلك القيم والفضائل في المجتمع، ليرفعوا ويدفعوا تلك التوافه التي غزتنا من وراء البحار، ونحن أحفاد وأتباع حيدر الكرار، ونعيش وننعم بالجوار الطاهر لأئمة الهدى عليهم السلام.