- مقدمة
عندما نريد أن نتحدَّث عن العظيم علينا أن نرتقي بفكرنا، وعقلنا، ونفتح قلبنا على النور والعظمة لأن الوادي مقدَّس يجب أن ندخل إليه بالطهارة ونخلع النعال، نعل الدنيا، ونعل الهوى لنستطيع أن ندخل بإحرام، ونرتوي من ماء الحياة، لأننا في ساحة المقام، وحضرة الإمام عليه من الله آلاف التحية والسلام.
نعم؛ إنه الإمام الثامن، والنور الضامن لزواره ومحبيه وشيعته الجنَّة، عالم آل محمد، ومحيي سيرتهم وسنتهم بعد أن اندرست أو كادت أن تندرس، لأن طغاة وحكام بني العباس أدخلوا الأمة في متاهة مظلمة ظالمة أشد حلكة مما أدخلها به بنو أمية وأبناء الشجرة الملعونة في القرآن.
- الإمامة والأمة
الباحث والمتتبع لحياة وسيرة أئمة أهل البيت الأطهار الأبرار (عليهم السلام) يجدهم دائماً يحاولون أن يرسِّخوا مفهوم الإمامة في الأمة الإسلامية لأنه لا أمة بلا إمام، فأصل تسمية الأمة هي من أنها تعني شعب، أو قوم، أو أُناس يقودهم ويسودهم ويسوسهم إمام وقائد يعلمهم ويربيهم ويزكيهم كما كان يفعل جده الرسول الأكرم، وولي الله الأعظم أمير المؤمنين، عليهم السلام، فالأمة مشتقة من الإمام وهي عيال عليه اسماً ورسماً.
⭐ الباحث والمتتبع لحياة وسيرة أئمة أهل البيت الأطهار الأبرار (عليهم السلام) يجدهم دائماً يحاولون أن يرسِّخوا مفهوم الإمامة في الأمة الإسلامية لأنه لا أمة بلا إمام
ولكن الإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، كان حديثه وكلامه في بيان معنى الإمامة لأنه تصدَّى لمسألة ولاية العهد لعبد الله المأمون، فكان يريد أن يُظهر للناس والشيعة والمحبين أن الإمام ليس إماماً بل هو تابع للسلطان، وربما هذا أحد الأسباب التي دعت المأمون لإقدامه على هذه الخطوة التي هي غاية في الدهاء السياسي، حيث أراد أن يُظهر للناس فعلاً وليس قولاً فقط أن الإمام كغيره من الناس، يتبع للسلطان، والسلطان هو الأساس وما غيره إلا تبعاً له.
ولكن الإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، الذي رفض قبول التابعية لأنه هو الأصل وإمامته هي الأساس، ولكن عندما أُكره وأُجبر على القبول خرج بإمامته، وعلمه بدون أن يشعر المأمون وينتبه لذلك إلا بعد حين، أي أن الإمام الرضا، عليه السلام، قبل بالمنصب ولكن رفض المشاركة ليحفظ المقام، ويعطي للأمة المعنى الحقيقي والواقعي للإمامة، وعزز ذلك في حديثه الرائع لعبد العزيز الذي يقول فيه: “أَمْرُ اَلْإِمَامَةِ مِنْ تَمَامِ اَلدِّينِ وَلَمْ يَمْضِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) حَتَّى بَيَّنَ لِأُمَّتِهِ مَعَالِمَ دِينِهِمْ، وَأَوْضَحَ لَهُمْ سَبِيلَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ عَلَى قَصْدِ سَبِيلِ اَلْحَقِّ، وَأَقَامَ لَهُمْ عَلِيّاً (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عَلَماً، وَإِمَاماً، وَمَا تَرَكَ لَهُمْ شَيْئاً يَحْتَاجُ إِلَيْهِ اَلْأُمَّةُ إِلاَّ بَيَّنَهُ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُكْمِلْ دِينَهُ فَقَدْ رَدَّ كِتَابَ اَللَّهِ، وَمَنْ رَدَّ كِتَابَ اَللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِهِ، هَلْ يَعْرِفُونَ قَدْرَ اَلْإِمَامَةِ وَمَحَلَّهَا مِنَ اَلْأُمَّةِ فَيَجُوزَ فِيهَا اِخْتِيَارُهُمْ؟
إِنَّ اَلْإِمَامَةَ أَجَلُّ قَدْراً، وَأَعْظَمُ شَأْناً، وَأَعْلَى مَكَاناً، وَأَمْنَعُ جَانِباً، وَأَبْعَدُ غَوْراً مِنْ أَنْ يَبْلُغَهَا اَلنَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، أَوْ يَنَالُوهَا بِآرَائِهِمْ، أَوْ يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيَارِهِمْ… فَمِنْ أَيْنَ يَخْتَارُ هَؤُلاَءِ اَلْجُهَّالُ؟ إِنَّ اَلْإِمَامَةَ هِيَ مَنْزِلَةُ اَلْأَنْبِيَاءِ، وَإِرْثُ اَلْأَوْصِيَاءِ، إِنَّ اَلْإِمَامَةَ خِلاَفَةُ اَللَّهِ، وَخِلاَفَةُ اَلرَّسُولِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَمَقَامُ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وَمِيرَاثُ اَلْحَسَنِ وَاَلْحُسَيْنِ (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ)، إِنَّ اَلْإِمَامَةَ زِمَامُ اَلدِّينِ، وَنِظَامُ اَلْمُسْلِمِينَ، وَصَلاَحُ اَلدُّنْيَا، وَعِزُّ اَلْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اَلْإِمَامَةَ أُسُّ اَلْإِسْلاَمِ اَلنَّامِي، وَفَرْعُهُ اَلسَّامِي”. (الکافي: ج۱ ص۱۹۸).
فمَنْ يستطيع أن يختار أو ينتخب، أو يعيِّن إماماً هادياً مهدياً؟، نعم هم يتحدثون عن الخلافة والحكم والقيادة السياسية فليكن لهم ذلك، ولكن أين هذا المقام الداني من مقام الإمامة العالي الذي هو من المقامات السامية التي اختارها الله بعد النبوة لبيان الأحكام، وترسيخ الدِّين، وإقامة السُّنن، وإماتة البدع التي يختلقها السلاطين والحكام وأبواقهم الضَّالة المضلة.
فالإمام الرضا، عليه السلام، هو أكثر الأئمة بياناً وتوضيحاً لهذه المسألة العقائدية لهذا السبب الدقيق، وكأنه قال للأمة والأجيال: إن الإمامة عهد الله فيكم فلا تظنوا أنه يضعها في غير أهلها، ولن يُضيِّع أهلها مهما فعل وحاول حكام الجور وسلاطين الظلم والطغيان في إطفاء نورهم لأن نورهم لا يُطفى، وشمسهم لا تخفى.
- الإمام قائد الأمة ورائدها
فعلى الأمة أن تعرف قدرها أولاً، ثم تعرف أمرها وقائدها، وتنظر هل يقودها إلى الصلاح والفلاح، أو يسير بها إلى الهاوية والفساد والإفساد، وتحدد على أثر ذلك خيارها فهل تتَّبع الإمام الهادي إلى النور، أو الإمام الضال المضل الذي يدخلها في التيه والظلام؟
لأن الأمة هي مسؤولة عن خيارها وقرارها والله تعالى أعطاها هذا الخيار بإرادتها لإتمام الحجة عليها، وفي حديث الإمام الجواد ، عليه السلام، : “مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ فَإِنْ كَانَ اَلنَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ عَبَدَ اَللَّهَ وَإِنْ كَانَ اَلنَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ اَلشَّيْطَانِ فَقَدْ عَبَدَ اَلشَّيْطَانَ”. (الکافي: ج6 ص434).
والإمام ليس بالشخص المجهول في الأمة، ولا بالشخصية المغمورة فيها، بل الإمام كما يصفه الإمام الرضا ، عليه السلام، بقوله: “اَلْإِمَامُ كَالشَّمْسِ اَلطَّالِعَةِ اَلْمُجَلِّلَةِ بِنُورِهَا لِلْعَالَمِ، وَهِيَ فِي اَلْأُفُقِ بِحَيْثُ لاَ تَنَالُهَا اَلْأَيْدِي وَاَلْأَبْصَارُ، اَلْإِمَامُ اَلْبَدْرُ اَلْمُنِيرُ، وَاَلسِّرَاجُ اَلزَّاهِرُ، وَاَلنُّورُ اَلسَّاطِعُ، وَاَلنَّجْمُ اَلْهَادِي فِي غَيَاهِبِ اَلدُّجَى، وَأَجْوَازِ اَلْبُلْدَانِ، وَاَلْقِفَارِ وَلُجَجِ اَلْبِحَارِ.. اَلْإِمَامُ اَلْمَاءُ اَلْعَذْبُ عَلَى اَلظَّمَأ، وَاَلدَّالُّ عَلَى اَلْهُدَى وَاَلْمُنْجِي مِنَ اَلرَّدَى… اَلْإِمَامُ اَلْأَنِيسُ اَلرَّفِيقُ، وَاَلْوَالِدُ اَلشَّفِيقُ، وَاَلْأَخُ اَلشَّقِيقُ، وَاَلْأُمُّ اَلْبَرَّةُ بِالْوَلَدِ اَلصَّغِيرِ، وَمَفْزَعُ اَلْعِبَادِ فِي اَلدَّاهِيَةِ اَلنَّآدِ.. اَلْإِمَامُ أَمِينُ اَللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَخَلِيفَتُهُ فِي بِلاَدِهِ، وَاَلدَّاعِي إِلَى اَللَّهِ، وَاَلذَّابُّ عَنْ حُرَمِ اَللَّهِ.. اَلْإِمَامُ اَلْمُطَهَّرُ مِنَ اَلذُّنُوبِ، وَاَلْمُبَرَّأُ عَنِ اَلْعُيُوبِ، اَلْمَخْصُوصُ بِالْعِلْمِ، اَلْمَوْسُومُ بِالْحِلْمِ، نِظَامُ اَلدِّينِ، وَعِزُّ اَلْمُسْلِمِينَ، وَغَيْظُ اَلْمُنَافِقِينَ، وَبَوَارُ اَلْكَافِرِينَ.. اَلْإِمَامُ وَاحِدُ دَهْرِهِ لاَ يُدَانِيهِ أَحَدٌ، وَلاَ يُعَادِلُهُ عَالِمٌ، وَلاَ يُوجَدُ مِنْهُ بَدَلٌ، وَلاَ لَهُ مِثْلٌ، وَلاَ نَظِيرٌ، مَخْصُوصٌ بِالْفَضْلِ كُلِّهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْهُ لَهُ، وَلاَ اِكْتِسَابٍ بَلِ اِخْتِصَاصٌ مِنَ اَلْمُفْضِلِ اَلْوَهَّابِ”. (الکافي: ج۱ ص۱۹۸).
هذا بعض ما جاء منه، عليه السلام، بوصف الإمام، حيث إنه قائد الأمة الإسلامية الذي اختاره الله، وعيَّنه رسول الله (ص)، ونصبه الإمام قبله ليكون لها رائداً للخيرات، عاملاً بالمكرمات، هادياً للصالحات، فهو أصل الخير، وأساس الإيمان، ونظام الملة وحافظها من الانفراط، والضياع في متاهات وصحراء هذه الدنيا.
⭐ مَنْ يدرس حياة الإمام الرضا، عليه السلام، يتعجب فعلاً من تلك الأخلاق الراقية التي كان يتعامل بها الإمام لاسيما حينما كان يعيش في قصور السلطان
فالإمام هو القائد الصالح، والرائد الناجح و”إِنَّ اَلرَّائِدَ لاَ يَكْذِبُ أَهْلَهُ”، بل يصدقهم، ويدلُّهم على المنتجع الصالح ويردهم الماء العذب، لأنه يريد لهم الصلاح والإصلاح، ويبعدهم عن المفاسد والمهالك، وهذا ما مثَّله حقيقة الإمام علي بن موسي الرضا، عليه السلام، قولاً وعملاً في سيرته العطرة ومسيرته المظفرة.
- الإمام الرضا، عليه السلام، والأمة
مَنْ يدرس حياة الإمام الرضا، عليه السلام، يتعجب فعلاً من تلك الأخلاق الراقية التي كان يتعامل بها الإمام لاسيما حينما كان يعيش في قصور السلطان، وهو ولي للعهد وله أن يفعل ما يشاء، ويتصرَّف ما يريد بل وكان المأمون يحب أن يفعل ذلك ولكنه في هذا الجانب كان كيوسف الصدِّيق، عليه السلام، وسيرته العطرة وهو في قصور فرعون أو سجونه، فلم يتغير ولم يتبدل بل غيَّر السجون وأحالها إلى مدرسة رسالية راقية، كما حوَّل القصور إلى معابد ومساجد لله بعد أن منع حراس المعبد الناس من العبادة إلا للأصنام الحجرية التافهة.
وكذلك الإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، الذي حوَّل قصر المأمون إلى ساحة للعلم والفكر والحوار والتلاقي، ونشر العلوم، والدِّين والفكر الإسلامي الذي أراد المأمون أن يمكر به فردَّ المكر بالفضيلة، والجهل بالعلم، والدَّهاء بالصبر وحسن السيرة، وهذا ما شهد به إِبْرَاهِيمُ بْنُ اَلْعَبَّاسِ حيث قال: “مَا رَأَيْتُ وَلاَ سَمِعْتُ بِأَحَدٍ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي اَلْحَسَنِ اَلرِّضَا، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، مَا جَفَا أَحَداً، وَلاَ قَطَعَ عَلَى أَحَدٍ كَلاَمَهُ، وَلاَ رَدَّ أَحَداً عَنْ حَاجَةٍ، وَمَا مَدَّ رِجْلَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ، وَلاَ اِتَّكَأَ قَبْلَهُ، وَلاَ شَتَمَ مَوَالِيَهُ وَمَمَالِيكَهُ، وَلاَ قَهْقَهَ فِي ضَحِكِهِ، وَكَانَ يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةِ مَمَالِيكِهِ وَمَوَالِيهِ، قَلِيلَ اَلنَّوْمِ بِاللَّيْلِ يُحْيِي أَكْثَرَ لَيَالِيهِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، كَثِيرَ اَلصَّوْمِ، كَثِيرَ اَلْمَعْرُوفِ، وَاَلصَّدَقَةِ فِي اَلسِّرِّ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ فِي اَللَّيَالِي اَلْمُظْلِمَةِ”، فهل هذه أخلاق السلاطين والحكام أو أخلاق الأنبياء والأولياء؟
وكم هو جميل وصف جده الإمام جعفر بن محمد الصادق للإمام الرِّضا، عليه السلام، حيث يقول: “غَوْثَ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ وَغِيَاثَهَا، وَعَلَمَهَا، وَنُورَهَا، وَفَضْلَهَا، وَحِكْمَتَهَا، خَيْرُ مَوْلُود،ٍ وَخَيْرُ نَاشِئٍ، يَحْقُنُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ اَلدِّمَاءَ، وَيُصْلِحُ بِهِ ذَاتَ اَلْبَيْنِ، وَيَلُمُّ بِهِ اَلشَّعْثَ، وَيَشْعَبُ بِهِ اَلصَّدْعَ، وَيَكْسُو بِهِ اَلْعَارِيَ، وَيُشْبِعُ بِهِ اَلْجَائِعَ، وَيُؤْمِنُ بِهِ اَلْخَائِفَ، وَيُنْزِلُ اَللَّهُ بِهِ اَلْقَطْرَ، وَيَرْحَمُ بِهِ اَلْعِبَادَ، خَيْرُ كَهْلٍ، وَخَيْرُ نَاشِئٍ، قَوْلُهُ حُكْمٌ، وَصَمْتُهُ عِلْمٌ، يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَيَسُودُ عَشِيرَتَهُ مِنْ قَبْلِ أَوَانِ حُلُمِهِ”. (عيون الأخبار: ج1 ص23).
فآلاف التحية والسلام على الإمام علي بن موسي الرضا في يوم موله المبارك، وأسعد الله أيام الموالين له ورزقهم الله في الدنيا زيارته عاجلاً، وفي الآخرة شفاعته آجلاً لأنه الضَّامن لزواره الجنة.