- مقدمة مفهومية
تحديد المعاني والمفاهيم أمر في غاية الأهمية، لا سيما في عصر اختلطت فيه المفاهيم وضاعت فيه القيم، لأنه عصر مادي بامتياز، فصارت السعادة فيه أن تكون لك ثروة عالية، وأرقاماً في البنوك، وسيارات فارهة، وقصر منيف، وأن يكون بإمكانك أن تذهب أينما تشاء، وتفعل ما يحلو لك، ولكن إذا فعلت ذلك هل تكون سعيداً؟
الواقع يقول لنا: إن كل ذلك لا يحقق السعادة، بل يكون من أسباب وعوامل الشقاء لهؤلاء ولذا نسمع بين الفينة والأخرى أن هؤلاء ينتحرون ليضعوا حدَّاً لحياتهم وشقائهم فيها، فالمال والأشياء المادية لا تصنع السعادة، بل تزرع الشقاء بهؤلاء الأشقياء.
ولذا قالوا: “السعادة الحقيقية: هي الشعور العميق بلذة الحياة، والاستمتاع بها بدون سبب، والرِّضى عن الذات، والتصالح مع النفس، والتسامح مع الناس”، ومنه جاء قول حكيم الهند: “أن السعادة الحقيقية: هي تلك التي يعيشها ويستمتع بها الأطفال الصغار قبل أن تتلوث عقولهم بأفكار الكبار”، فالسعادة ليس أن تملك الأشياء، بل هي ألا تملكك الأشياء لتصير عبداً لها.
والسعادة الحقيقية: هي تلك الحالة من الراحة الروحية والنفسية، والاطمئنان القلبي، والرِّضا عن النفس بما قسم الرَّب سبحانه، فالسَّعيد كل السَّعيد مَنْ رضي عن الله، ورضي الله عنه وأرضاه، فالرِّضا والأمن والاطمئنان هي المقياس لنسبة السعادة في البشر.
- السعادة والشقاء مخلوقة
وهنا الكثير من الأحباب الشباب يتفاجؤون بأن السعادة والشقاء هي خلق من خلق الله كما يقول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): “إِنَّ اَللَّهَ خَلَقَ اَلسَّعَادَةَ وَاَلشَّقَاءَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ فَمَنْ عَلِمَهُ اَللَّهُ سَعِيداً لَمْ يُبْغِضْهُ اَللَّهُ أَبَداً، وَإِنْ عَمِلَ شَرّاً أَبْغَضَ عَمَلَهُ، وَلَمْ يُبْغِضْهُ، وَإِنْ كَانَ شَقِيّاً لَمْ يُحِبَّهُ اَللَّهُ أَبَداً، وَإِنْ عَمِلَ صَالِحاً أَحَبَّ اَللَّهُ عَمَلَهُ وَأَبْغَضَهُ لِمَا يُصَيِّرُهُ إِلَيْهِ فَإِذَا أَحَبَّ اَللَّهُ شَيْئاً لَمْ يُبْغِضْهُ أَبَداً، وَإِذَا أَبْغَضَ اَللَّهُ شَيْئاً لَمْ يُحِبَّهُ أَبَداً”. (الکافي: ج۱ ص۱۵۲).
⭐ السعادة والشقاء تُخلق مع الإنسان، وهي في الفطرة التي فطر الله الخلق عليها
فالسعادة والشقاء تُخلق مع الإنسان، وهي في الفطرة التي فطر الله الخلق عليها وهذا ما نستفيده من قول الرسول الأعظم، حيث قال: “اَلسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَاَلشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَاَلسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ..”، فرحلة الإنسان وسعادته تبدأ من تلك الظروف التي تمرُّ عليه وهو في بطن أمه، وهذا بحثه العلمي طويل.
- السعادة والشقاء اختيار
ولكن لسائل من الشباب الأحباب أن يسأل: هل يعني ذلك أننا مجبرون على سلوك طريق الشقاء، أو السعادة؟ وهنا الخيط الدَّقيق الذي يجب أن نميِّز به الإنسان عن غيره، لأن الإنسان ليس ذلك المخلوق الذي خلقه الله وأجبره على أعماله – كما يقول البعض- لأن هذا يُبطل الثواب والعقاب أصلاً، بل الإنسان خُلق وفيه الاستعداد الكامل لكل من الشقاء والسعادة، وعليه هو بملء إرادته أن يختار أي الطريقين يسلك هل للسعادة أم للشقاء؟
قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان: 3).
فالسعادة والشقاء هو قرار واختيار منك – أيها العزيز- وينبع من داخلك ولا يأتيك من خارجك، فالأمر والقرار بيدك فإذا أردتَ أن تعيش سعيداً فما عليك إلا أن تتبع البرنامج، وتلتزم بالقانون الرَّباني الذي بيَّنه في القرآن الحكيم، وأن تعيش حياتك في كل شيء وفي كل لحظة ذاكراً لربك، ولذا قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 124).
فمَنْ أعرض عن ذكر الله في أي عمل، وأي شيء يعترضه فإنه لن يُوفق إليه وإن حالفه الحظ لظروف موضوعية فإنه لن يسعد به، ولن يهنأ به أبداً بل ستكون النتيجة هو ضنك العيش، وصعوبتها وهو الشقاء بكل معنى الكلمة، لأن مَنْ أعرض عن الله ولم يذكره، أعرض الله عنه وتركه لنفسه وهواها، وأمير المؤمنين الإمام علي(ع) يقول: “مَغْلُوبُ اَلْهَوَى دَائِمُ اَلشَّقَاءِ مُؤَبَّدُ اَلرِّقِّ”، فما أعظمها من حكمة رائعة، لأن مَنْ غلبه هواه ونفسه الأمارة أعطى قياده للشيطان وابتعد عن طريق الرحمن.
- السعادة والشقاء ميزان
وفي الحقيقة إن السعادة والشقاء كفتي ميزان لحياة الإنسان، وهما خطان متوازيان خط الرَّحمن، وخط الشيطان، والإنسان يتقلَّب بينهما فمَنْ سار في خط الرحمن فإنه سيكون سعيداً ولو كان في بطن الحوت كيونس بن متى، أو في سجن زاويرا كيوسف الصديق، أو سجن السندي بن شاهك كالإمام موسى بن جعفر، أو كان في قمَّة السلطة السياسية ويحكم نصف العالم كأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام،، أو حتى كله كذي القرنين الصالح، فالأمر سواء عنده، لأنه يبحث عن رضا الله في عمله وحياته كلها.
⭐ في الحقيقة إن السعادة والشقاء كفتي ميزان لحياة الإنسان، وهما خطان متوازيان خط الرَّحمن، وخط الشيطان
وأما مَنْ سار في طريق الشيطان فإنه سيكون شقياً ولو كان نمرود العراق، أو فرعون مصر، أو كسرى الفرس، أو هرقل الشام، فإنه لا يستطيع أن ينام لأنه يخاف من أقرب المقربين منه على سلطته وحكمه وكم من الملوك قتلوا عوائلهم وأقرب المقربين منهم لأن الملك عقيم، ولا يقبل المنافسة، ومَنْ يقرأ عن بعض نماريد، وفراعين، وقوارين هذا العصر يجد أن الكثيرين منهم لا يعرفون معنى النوم، فلا ينامون إلا بالمنوِّم، فلا يستلذون بطعم النوم، أو الطعام، أو الراحة، فهل من شقاء أكبر من هذا الشقاء أيها العقلاء؟
وهذا يؤكد ما تقدم وهي أن الأشياء ولو جمعت أشياء الدنيا كلها لن تهبك لحظة من السعادة الحقيقية، بل كلما حصلت على أشياء أكثر فإنها ستكون سبباً لشقائك أكثر، وبدل أن تفتح لك باباً من الهناء والسعادة، فإنها ستفتح عليك أبواباً من الشقاء، وأولها عيون الحساد، والأعداء، والطامعين بما حصلت عليه.
- حقيقة السعادة والشقاء
فعلينا أيها الشباب أن نعرف حقيقة السعادة التي نسعى إليها حتى ندركها أو بعضها، والشقاء الذي نهرب منه حتى نتخلص منها أو من بعضه فلا نعيش حياتنا كلها بشقاء وننهيها كذلك، فعندها نخسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران الحقيقي للإنسان، وهذا ما يُشير إليه ميزان العدالة، ومقياس السعادة أمير المؤمنين الإمام عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ بقوله: “حَقِيقَةُ اَلسَّعَادَةِ؛ أَنْ يَخْتِمَ اَلرَّجُلُ عَمَلَهُ بِالسَّعَادَةِ، وَحَقِيقَةُ اَلشَّقَاءِ: أَنْ يَخْتِمَ اَلْمَرْءُ عَمَلَهُ بِالشَّقَاءِ”. (الخصال: ج۱ ص۵).
هنا يكمن لبُّ وجوهر المسألة أيها العزيز فالعبرة بالنهاية وليس في البداية، فالإنسان خُلق ليس لهذه الدنيا الدنية وحقيقتها أنها قنطرة للعبور إلى العالم الآخر، وهي دار ممر لا دار مقر، فعلى العاقل أن يأخذ من ممره إلى مقره، وأن يتزود لسفره الطويل، فاليوم عمل وجد واجتهاد وكفاح ونضال، وغداً حساب على كل صغيرة وكبيرة.
فالدنيا ومتعها وملذاتها وأموالها وأشياؤها وكل حاجاتها ليس مقياساً للسعادة، والمقياس الحقيقي هو أنت ورضاك عن نفسك، واطمئنان قلبك بذكر الله ورضاك بفضله، فإذا عشت هذه الحالة من التواؤم والتلاؤم بين روحك ونفسك وواقعك فإن العيش سيهنأ والحياة ستكون سعيدة بل ستكون أشبه بجنة من جنان الأرض، كما قرأنا وعرفنا قصص أولئك العظماء من البشر كالأنبياء والرسل والأوصياء والأولياء والشهداء، فهؤلاء عاشوا حقيقة سعداء.
وما أجدر بنا أن نقتدي بأولئك الكرام من سادة الأنام محمد وعترته الكرام (ع) الذين نقرأ في سيرتهم العجب العجاب من الرِّضا حتى في آخر لحظات الحياة حتى لو كان في جسده أكثر من ألف ضربة سيف وطعنة رمح، كالإمام الحسين (ع) الذي كان يقول في تلك اللحظات وهو ينتظر ذلك الشقي ليفعل فعلته ويتم شقاءه: (إلهِي، رِضاً بِرضَاكَ، لا مَعْبُودَ سِواكَ).. و(إلهي رِضاً بِقَضائِكَ، وتَسْليماً لِامْرِكَ، وَلا مَعْبودَ سِواكَ، يا غِياثَ الْمُستَغيثين، مَا لِي رَبٌّ سِوَاكَ وَلَا مَعبُودٌ غَيركَ، صَبرَاً عَلَى حُكمِكَ يَا غِيَاثَ مَنْ لَا غِيَاثَ لَهُ، يَا دَائِمَاً لَا نَفَادَ لَهُ، يَا مُحيِي المَوتَى، يَا قَائِمَاً عَلَى كُلِّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَت أُحكُم بَينِي وَبَينَهُم وَأَنتَ خَيرُ الحَاكِمِين)، هذا هو الرِّضا في أعلى مستوياته، وهي السعادة بأجلى وارقى معانيها. فالسعادة رزق من الأرزاق، والشقاء بلاء؛ رزقنا الله وإياكم السعادة وأبعد عنَّا الشقاء.