إضاءات تدبریة

الفاصلة بين الإيمان والكفر

“الإيمان عقدٌ في القلب، ولفظ باللسان، وعمل بالجوارح”.

الإمام الرضا، عليه السلام.

هنالك أمور يمكن تثبيتها بالقول دون الفعل في بعض التعاملات اليومية كما تؤكد ذلك الشريعة، فالاحكام تكون على  الظاهر ـ على الأغلب- ولا مجال للبحث في الكوامن والخفايا، كما في القاعدة الفقهية؛ “البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر”، حتى وإن كان اليمين كاذباً، أو شراء المأكولات من “اسواق المسلمين”، وحتى مسألة مساعدة الفقير وإن لم يكن كذلك، وغيرها كثير من الاحكام، بيد أن أمور اخرى تحتاج الى القول والعمل في وقت واحد، مثل؛ الايمان بالله ـ تعالى- وبرسوله وبكتابه وأحكامه وقِيمه.

⭐ الأدلة العقلية والنقلية تؤكد أن العمل مع القول لازمة الإيمان، وهو الخطر الأحمر أمام الكفر

وكما استوقف العلماء مسألة تعلّق الايمان بالعمل، وليس الاكتفاء بتلفظ الشهادتين، فانهم بحثوا في أمر الكفر بالله ـ تعالى- فهل هي منحصرة بالجحود اللفظي وإنكار فريضة الصلاة والصيام؟

الأدلة العقلية والنقلية تؤكد أن العمل مع القول لازمة الإيمان، وهو الخطر الأحمر أمام الكفر، في نفس الوقت ثمة أدلة مماثلة تؤكد سلامة الإيمان مع القول باللسان وحسب، والتشابه في هذه الأدلة سببه “أن هوى الانسان ومصالحه تحدو به الى أن يدعي أن الكفر ليس إلا مجرد الجحود اللفظي لوجود الله – سبحانه تعالى-، حتى يريح نفسه من وصمة الكفر، وعار الشرك، ويجعل الآيات القرآنية والنصوص التي تبحث في الكفر بعيدة عنه، متوجهة الى أولئك الذين يعبدون الاصنام الحجرية مباشرة”. (القرآن حكمة الحياة- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).

  • الكفر العملي والايمان اللفظي

للإيمان والكفر علاقة وثيقة بحياة الانسان اليومية، ليس اليوم، وإنما منذ القدم، وقد خَبَر ذلك الانبياء مع أقوامهم الذين حاولوا الالتفاف على الايمان والالتزام بالتعاليم والاحكام السماوية كما هو حال اليهود مع نبيهم موسى، عليه السلام، و بني اسرائيل بشكل عام مع انبيائهم على مر العصور، وكما ينطبق الأمر على شريحة المنافقين في المجتمع الاسلامي، فهؤلاء يسعون دائماً للظهور بمظهر الإيمان وتجنب وصمة الكفر ليضمنوا العلاقات الطبيعية مع افراد المجتمع، كما يضمنوا مصالحهم ومكاسبهم.

وربما تكون الغفلة العامل الأبرز في سقوط البعض في شرك الكفر بالله دون علم منه، ففي زحمة الحياة اليومية، وفي سياق البحث عن الإفضل والتفوق على الآخرين والبحث عن النجاح ينزلق البعض نحو الكفر بالله وبنعمه، ومثال ذلك؛ الطعام في المناسبات العامة، عندما يتم تحضير كميات هائلة من الطعام بتكاليف عالية، بمناسبة حزن أو فرح، فتنحر الإبل والابقار والاغنام، وتُصف القدور بالعشرات، وفي نهاية المناسبة يبقى مقدار كبير من هذا الطعام دون استفادة، فيرمى في النفايات.

 او ما يتعلق بالمال والثروة والاولاد والفهم الخاطئ للحكمة الإلهية بالعطاء او الاحجام (عدم العطاء)، فنرى قليل المال يتسائل عن سبب ثراء هذا او ذاك، وعدم امتلاكه هو الاموال والسيارة والبيت الفخم، أو ما يتعلق بالانجاب، نرى التساؤل والتبرّم الشديد من البعض من عدم الانجاب، بينما يرى الاطفال مع ابويهم في الشارع والحدائق، او قبل الزواج والانجاب، عندما يُقال للشاب او الشابة علكيما الايمان بالله قبل التفكير بالزواج وأن لا علاقة بالزواج بالمال الوفير والامكانات التي يتحدث عنها الناس جزافاً ومبالغة، وقد سمعت ذات مرة من شاب يتحدث عن الآية الكريمة: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، ويقول بشكل غريب: “اعتقد ثمة فهم غير صحيح لهذه الآية! فهل من المعقول ان نتزوج دون امكانات مادية؟! مع علمه أن الاسلام يؤكد دور المال بعنوان الصداق (المهر)، وأنه الشرط الأساس في صحة الزواج، ولا يلغيه مطلقاً، إنما المبالغة فيه مرفوضة.

فإيمان الشاب المقبل على الزواج يكون المحك عندما يكون فقيراً، لأن الله ـ تعالى- يقول بصريح الآية: {يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، والنبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، يقول في حديث صريح ايضاً: “التمسوا الرزق بالنكاح”، وكذا الحال بالنسبة للرجل أو المرأة بعد الزواج، وعندما يتضح أن ثمة مشكلة لدى أحدهما تعيق مسألة الانجاب، فان أمامهما الآية الكريمة من سورة الشورى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}، أو ذاك الذي ينتظر الشفاء من مرض مزمن او عضال، فيجتهد بالدعاء والابتهال الله ـ تعالى-، ومتوسلاً بالأئمة والأولياء الصالحين، فالايمان هنا يكون على المحك، إما الرضى والتسليم بقضاء الله وقدره، او القبول بحالة اهتزاز الايمان داخلياً، والانزلاق في تصورات ذهنية وافكار تؤدي به الى الكفر من حيث لا يشعر.

⭐ الشكر له مظهر لفظي وداخلي في نفس كل انسان يتجلى في سلوكه ومواقفه مما يطرأ عليه من أحداث وتطورات؛ في شقيها الايجابي والسلبي، كما يراه هو

إننا نؤمن بالله ـ تعالى- وبكتابه، وبرسوله، وبالأئمة المعصومين، ونواظب على زيارة المراقد المشرفة، ونقرأ القرآن والأدعية المأثورة، مع كامل الالتزام بالفرائض، وحتى المستحبات، بيد ان هذه الممارسات لن تكون لها وزناً ولا قيمة عند الله اذا ما كان الإيمان به ـ تعالى- ضمن هذه الممارسات حتى لا تكون مجرد حركات وأعمال فارغة من المحتوى، بل تعزز الايمان بأن الله ـ تعالى- هو الرزاق، وهو القادر على كل شيء.

  • الشكر صمام أمان

من خلال متابعتي البسيطة لآيات الذكر الحكيم ما رأيت تلازماً في المصطلح بين الإيمان، والكفر، إنما جاء الإيمان في لفظة “المؤمنين”، كصفة شخصية وعملية لمن هم {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}، ومن يضحي بنفسه وأمواله في سبيل الله، ومن يصبر ويتوكل على الله في جميع شؤون حياته، وكذا الحال بالنسبة للكفر فقد جاءت بلفظة “الكافرين” وغيرها، كحالة لمن يجحد بأحكام الله وتعاليمه، او يشكك بالدين، او يكون آيساً من رحمة الله، او من لم يحكم بما أنزل الله. بينما نلاحظ التلازم بين عدم الشكر والكفر بالله، أي من لم يشكر فهو من الكافرين، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.

الشكر له مظهر لفظي وداخلي في نفس كل انسان يتجلى في سلوكه ومواقفه مما يطرأ عليه من أحداث وتطورات؛ في شقيها الايجابي والسلبي، كما يراه هو، وإلا فانه {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}، فهو لا يكلف صاحبه شيئاً إلا أن يكون الانتباه الشديد لأي حالة انفعال تنتابه لأي سبب، او فكرة معينة تداهمه بدعوى تغيير الحال الى أحسن ـ بظنه-، ثم ينزلق الى نكران النعم الموهوبة له، وما يعيشه من فرص ونعم موفرها له الله دون وهو غافل عنها. فالغفلة عن النعم هي التي تدفع بالانسان الى حافة الكفر بالله، وهو الكفر الذي لا يشبه بأي حال من الاحوال كفر المشركين في صدر الاسلام، او أولئك الذين لا يعبدون الله ـ تعالى- او يشركون بعبادته آخرين، او يعبدون حيوانات او اشياء مختلفة، كما نلاحظه في عالم اليوم، إنما الخطورة في آثار هذا الكفر على حياة الانسان، وعلى ذريته وما يخلفه بعد موته، فهو سيكون عاجزاً عن أن يخلف أثراً طيباً بعد مماته، عندما يكون دائم الشكوى والتبرّم من حاله وما لديه، فالرضى، وقوة النفس، والايمان بالله هي التي تشجع على العطاء والبذل ومساعدة الآخرين، وقد أشار العلماء الى أمثلة عديدة من أناس فقراء لا يملكون الملايين، ولكنهم شاركوا في بناء المساجد والحسينيات ومشاريع البر والإحسان.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا