إن الناظر الى تعامل الإمام الحسين، عليه السلام، في كربلاء يجد انه لم يتعامل على أساس أن القوى التي تقابله هي قوى معاديه بقدر ما ينظر لهم على أنهم أناس ماتت فيهم الرحمة والإنسانية، لذا نجده، عليه السلام، في أكثر من موضع يصرح بكراهية أن يبدأهم بقتال ويحاول جاهدا أن يحرك ما بداخلهم ويعيدهم إلى وعيهم، لأنه عليه السلام، يجد من الممكن تحريك ضمائر هولاء وتغييرهم وأعادتهم إلى رشدهم.
وهذا ما نجده بعد انتهاء الثورة، أو في موقف عبيد الله ابن الحر” الذي أنقلب من موالي للنظام لم يستجب إلى نداء الإمام الحسين،عليه السلام، حين دعاه إلى نصرته، إلى ثائر على النظام ينشئ المراثي في شهداء كربلاء، ويعلن العصيان، أو في ليلة العاشر من المحرم يقال أنه في هذه الليلة أنضاف إلى أصحاب الحسين من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلا حين رأوهم متبتلين متهجدين عليهم سيما الطاعة والخضوع لله تعالى.
📌انحراف هذه الامة هو نتاج عمل أناس أو مجموعة من البشر يجد الإمام الحسين إمكانية التعامل مع هذه القوة بقوة تماثلها أو تعمل على تحطيمها، وبالفعل فقد هزت تضحية الإمام الحسين، عليه السلام، ضمائر المسلمين
ولو رجعنا إلى بداية انطلاق تعامله عليه السلام مع أعدائه وفي تعريفه لمواجهة القوة التي أرادت أن تهيمن على المجتمع كله آن ذاك واستمرارها ونفوذها له من العواقب ما لا يكن بعد مقتل الحسين، عليه السلام، إذ نجده عندما وصف يزيد وقال عنه: “ويزيد رجل شارب الخمور وقاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله”. قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
أراد بذلك أن يميز الإنسان الفاسد من الإنسان السوي لذا نجده قال: “ومثلي لا يبايع مثله”، وهذا معناه إن كل بشر يتصف بما يتصف به الحسين، عليه السلام، ولا يتصف بما يتصف به يزيد فهو إنسان صالح، لان الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء ليس بإنسان وان كان محسوبا على الجنس البشري وهو محط استنكار الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}، لذا نجد الله ـ تعالى ـ قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، وفي موضع أخر: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} فالأحق بالوجود بقول الإمام الحسين، هو الإنسان وليس كل البشر لذا نجده في تتمة كلامه وبعد وصفه ليزيد قال للوليد: “نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة”، وهذا يكشف لنا عن طبيعة الهدف السامي الذي أراده الإمام الحسين عليه السلام بإرجاع هوية الإنسان للإنسان.
الأمر الذي جعله يتعامل مع طرف مسلوب الإنسانية ويجد إمكانية أرجعاها إليه ولو كلفه ذلك نفسه وأصحابه وأهل بيته، و”التفسير الوحيد الذي يستطيع أن يفسر لنا هذه الانتكاسة والردة في شخصية الأمة أو طائفة كبيرة من الأمة على أقل تقديرـ يكمن في الجهد الواسع الذي بذله بنو أمية في إرهاب الناس وإفسادهم لفرض سيطرتهم على المسلمين ومسخ الهوية الإسلامية حتى عادت ضمائرهم و إداراك هم في قبضة بني أمية، يتحكمون فيها بالطريقة التي تعجبهم، وتخدم أهدافهم.
وهذا معناه أن السبب في انحراف هذه الامة هو نتاج عمل أناس أو مجموعة من البشر يجد الإمام الحسين إمكانية التعامل مع هذه القوة بقوة تماثلها أو تعمل على تحطيمها، وبالفعل فقد هزت تضحية الإمام الحسين، عليه السلام، ضمائر المسلمين، هزة عنيفة، وأشعرتهم بفداحة الإثم، وضخامة الجريمة، وعمت الردة والانتكاسة في نفوسهم وحياتهم.
فقد كانت هذه التضحية المأساوية مبدأ ومنطلقا لحركات كثيرة، ومصدراً كبيراً للتحريك في التاريخ الإسلامي، وهذه هي الغاية ( الحركية) في ثورة الإمام الحسين، عليه السلام، فهو، عليه السلام، حاول أن يفصل ما بين القوم وما بين تلك القوة المهيمنة انطلاقا من فعله مع جيش الحر الذي حاول الجعجعة به وإبعاده عن مقصده حتى قيل أن علي بن الطعان المحاربي مع الحر فجاء آخرهم وقد اضر به العطش فقال الحسين: أنخ الراوية وهي الجمل بلغة الحجاز، فلم يفهم مراده.
فقال له: أنخ الجمل ولما أراد أن يشرب جعل الماء يسيل من السقاء فقال له: ريحانة الرسول أخنث السقاء فلم يدر ما يصنع لشدة العطش، فقام، عليه السلام، بنفسه وعطف السقاء حتى ارتوى وسقى فرسه.
وهكذا تعامل يكشف لنا دقة الفعل وغايته في إيصال رسالة السلام لهولاء القوم وتحريك العرق الإنساني بداخلهم و أيضا هذا ما نجده في بداية خطابه إلى الأعداء: “أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعضكم بما هو حق لكم علي وحتى اعتذر أليكم من مقدمي عليكم فان قبلتم عذري وصدقتم قولي واعيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد”.
فهو يخاطب الناس جميعهم ولم يخاطب من يمثلهم لأنه يجد أمكانية كل فرد الانفصال عن تلك القوة والتحرر منها وأعطاهم الفرصة في الرجوع إلى النفس بمثابة حجة تحقق الندم ولو بعد حين، وهذا ما له من التأثير المستقبلي عليهم، فهو بذالك أراد إرجاعهم إلى العقل والمنطق وتجريدهم من التناقض الذي يعيشونه ليرجع إليهم إرادتهم وهو الواضح فيما يقول لهم في الخطاب نفسه: “بأس العبيد أنتم أقررتم بالطاعة وأمنتم بالرسول محمد، صلى الله عليه واله ثم أنكم زحفتم إلى ذريته و عترته تريدون قتلهم”.
وهكذا وقف الإمام الحسين أمام جيوش الأعداء ووجه نداءه إليهم بأسلوب مؤثر تخشع له القلوب، ويستفز العواطف ويخاطب العقول لعل فيها بقية من دين فيردع النفوس عن غيها، ويكبح نزعة الشر التي انطوت عليها نفوس المخاطبين الذين أصبحوا ضحايا للزيف والخداع والكذب الذي مارسه سادتهم لينالوا سخط الله وغضبه ويخسروا الدنيا والآخرة.
فتعامل الإمام الحسين، عليه السلام، مع أعدائه تعامل مبني على خطورة ما يزيد في إيقاع القوم بالغي والكفر والبعد عن الإنسانية، لاسيما خطورة الأداة التي تعالج هذا المرض الذي فتك بهولاء، لأنه عليه السلام، عندما يأتي احدهم ويفتري على شخصيته أمام الجيوش ولم يكن هنالك ما يردع ذلك فهذا يشكل خطورة على طبيعة الخطاب وتأثيره لاسيما وهم قوم منحرفين كما أسلفنا، وهذا تعامل معه الإمام الحسين بحذر لمعالجة هكذا مواقف، وليس الغاية من تعامله العداء بقدر ما هو لعلاج آني له نتائجه الآنية والمستقبلية.
وهذا ما تجسد في تعامله مع عبد الله بن حوزة التميمي عندما صاح أفيكم حسين؟ وفي الثالثة قال أصحاب الحسين: هذا الحسين فما تريد منه؟
قال: يا حسين ابشر بالنار
قال الحسين: كذبت بل أقدم على رب غفور كريم مطاع شفيع فمن أنت؟
قال: أنا ابن حوزة فرفع الحسين يديه حتى بان بياض أبطيه وقال: اللهم حزه إلى النار فغضب ابن حوزة و قحم الفرس إليه وكان بينهما نهر فسقط عنها وعلقت قدمه بالركاب وجالت به الفرس و انقطعت قدمه وساقه وفخذه وبقي جانبه الأخر معلقاً بالركاب وجالت به الفرس تضرب به كل حجر وشجر وألقته في النار المشتعلة في الخندق فاحترق ومات.
الإمام الحسين عليه السلام، وكما قلنا أراد من هذا الفعل مع ابن حوزة إظهار حقيقة شخصيته أمام هذا التشويش الإعلامي، الذي يحاول أن يعمق ويزيد من تأثير قوة الانحراف المتناقضة مع قوة الإمام الحسين، عليه السلام، وهذا ما كان سببا لا تقل أهميته في تأصيل الخطاب الإنساني الصادر عن شخصية لابد وان تكون في كامل التميز عن الطرف الأخر، وهذا ما جعل مسروق بن وال الحضرمي يتردد ويتراجع أمام مقاتلة الإمام الحسين، إذ قال : كنت في أول الخيل التي تقدمت لحرب الحسين لعلي أن أصيب رأس الحسين فأحضى به عند أبن زياد فلما رأيت ما صنع بابن حوزة عرفت أن لأهل هذا البيت حرمة ومنزلة عند الله وتركت الناس وقلت: لا أقاتلهم فأكون في النار.
📌الإمام عليه السلام، حاول بكل ما يمكن وبذل ما يجب عليه من أجل ضمان كرامة الإنسان وأعطاه قيمته واستشعاره بوجوده كمخلوق له ما يميزه عن باقي الموجودات
الإمام عليه السلام، حاول بكل ما يمكن وبذل ما يجب عليه من أجل ضمان كرامة الإنسان وأعطاه قيمته واستشعاره بوجوده كمخلوق له ما يميزه عن باقي الموجودات، وهذا ما فعله الحسين، عليه السلام، وصرح به بوضوح أمام الجيش المعادي له “إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم”.
ومن هذا نفهم يجب أن نفهم من لم يحرز سلامة فكره بادراك الشريعة المقدسة وما تحمله من معطيات فكرية وعقائدية، فالإمام قد حدد منهجا جديدا أنموذجا هو احترام الانتماء للجنس البشري وما يترتب عليه من آثار تحتم عليه أن يتخلق بخلق القيم الأخلاقية والمعاير الاجتماعية المعتدلة، والسجايا الإنسانية السامية التي يقرها العقل والمنطق الوجدان، التي تفيض بطبيعتها عليه بسجايا خلقية لا تتنافى في أغلب الأحيان مع النواميس السماوية، مما تمنحه هوية الإنسان الحر الذي يسعى لكسر قيود الاستسلام للغرائز، والإطلالة على نافذة الحرية بالوقوف عند نواميسها الأخلاقية التي لا يُختلف عليها كــل ذي لب. الأمر الذي جعل من خطاب واقعة الطف خطابا دائما حيا متجدداً على مر الدهور والأيام.
المصادر
1- شمس الدين، محمد مهدي، ثورة الحسين وظروفها الاجتماعية وأثارها الإنسانية، تحقيق سامي الغريري، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، 250.
2- شمس الدين، محمد مهدي، ثورة الحسين ، عليه السلام،في الوجدان الشعبي، الدار الإسلامية،ط1،بيروت-لبنان، 1400ه-1980م،26.
3- المقرم، عبد الرزاق، مقتل الحسين ، عليه السلام،مطبعة غدير، ط1، النشر ال علي، 1424ه ق- 1382ه ش، 206.
4- الاصفي، محمد مهدي، في رحاب الأمام الحسين ، عليه السلام، يوم عاشوراء، مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت، عليه السلام، مطبعة ليلى، ط1، 147ه، 24.
5- الكامل في التاريخ ،ابن الأثير،ج3، 27.
6- المدرسي، السيد محمد تقي، عاشوراء امتداد لحركة الأنبياء، مطبعة المظاهري، الناشر مكتب العلامة المدرسي، ط2، 1407ه.
7- الأمين، السيد محسن، أعيان الشيعة، تحقيق حسن الأمين،ج1، دار التعارف للمطبوعات، بيروت،1403ه-1983م.
8- *http//www>kitabat.info/author.php