في سبعينات القرن الماضي عندما كنّا نتصفح قصص الاطفال في المجلات، وبشكل عام أدب الاطفال في المطبوعات، كانت الكلمات الى جانب الصور تحاكي عقولنا، كما كانت الصورة الزاهية والجميلة تداعب أنظارنا، كنا نقرأ عن البطولة والجرأة والشجاعة والوفاء والتعاون وقيم ايجابية وأخلاقية سامية، فيما كانت الصور تقوم بدور تزيين هذه المفاهيم وتكرسها في الاذهان.
وبعد اكثر من اربعين عاماً؛ بدلاً من أن نتطور ثقافياً من الكلمة الناصحة والواعظة، الى الدعوة للتنمية المستدامة على الصعيد الذهني، لنسرع في القراءة، ونستثمر الوقت ولا ندعه يمر سريعاً، ونتعلم كيف نفكّر بانفسنا و بالآخرين، ثم بالواقع الذي نعيشه، فوجئنا بتطاول غريب للصورة على حساب الكلمة، وقد ساعد على هذا التطور التقني الحاصل في اجهزة الاستقبال، فخرج هذا التطاول من المطبوعات ليقتحم التلفاز والسينما ثم الانترنت حتى باتت الصورة هي سيدة الموقف، وصاحبة الكلمة الفصل أمام جمهور الاطفال.
📌 أرى تسيّد الصورة على المشهد الثقافي في غير محلّه بالمرّة، في وقت يتطور الفكر البشري وتتقدم العلوم وتتلاقح الثقافات والحضارات، فهل نحن في طريق التقدم الحضاري
أرى تسيّد الصورة على المشهد الثقافي في غير محلّه بالمرّة، في وقت يتطور الفكر البشري وتتقدم العلوم وتتلاقح الثقافات والحضارات، فهل نحن في طريق التقدم الحضاري؟ أم نستعيد تجارب الأمم الغابرة التي تكلمت بالصورة والاشارة كما هي الحضارة الفرعونية؟!
أمر غريب ومريب في آن.
لم يكن القصد من هذه السطور توجيه عتب على المعرض الدولي لكتاب الطفل في كربلاء المقدسة، فالقائمون على المعرض ليس لديهم طاقم خاص من المؤلفين المختصين بثقافة الطفل، إنما بالامكان الاستعانة بكتاب من بلاد اخرى يكتبون للطفل، لاسيما في مجال الأدب، فهو الأقرب الى القلوب.
وقبل هذا بالامكان الاستعانة بطاقم من المترجمين الأكفاء لنقل المؤلفات من اللغات الاجنبية الى العربية رغم صعوبة الحفاظ على حرارة المشاعر، وحيوية الكلمات وجمالها، بيد انه يستحق العناء، و”ما لا يدرك كُله لا يُترك كُله”، علماً؛ أننا مطالبون في الوقت نفسه بإعداد شريحة يعتد بها من المؤلفين المختصين بالكتابة للطفل تحديداً كونه استحقاق ثقافي وحضاري في الوقت الحاضر.
من المؤسف أن نصطاد عناوين بعدد اصابع اليد لمؤلفات تستحق القراءة للطفل في هذا المعرض، فيما كان المعروض في معظم الاجنحة المشاركة هي المجلات الخاصة بالاطفال والتي يمكن ان نجدها في الاكشاك طوال الوقت، وهي لا تحمل مواصفات الكتاب الذي يجده الطفل منتصباً أمامه كمعلم حكيم يلزمه بآداب القراءة والتدبّر، مع كل الاحترام للجهود الصحفية المبذولة في ميدان صحافة الطفل ودورها المباشر في التوجيه والارشاد والتوعية.
📌 من المؤسف أن نصطاد عناوين بعدد اصابع اليد لمؤلفات تستحق القراءة للطفل في هذا المعرض
المرحلة الراهنة من الحساسية والخطورة بشكل يدفعنا للبحث في كل مكان عن كتاب الطفل المجيب عن تساؤلات شتّى في مجال العقيدة والسلوك والتطبيقات العملية للقيم الاخلاقية والانسانية، ولماذا يجب فعل هذا؟ وما الفائدة من فعل ذاك؟
اين يجد الطفل الاجابة عن هذه التساؤلات؟
هل يجدها في الصورة؟
وما مصير اطفالنا في هذه المرحلة الغامضة؟!
في الوقت الحاضر نحن أمام خيارين أحلاهما مُر بالنسبة الينا طبعاً؛ أما اطفالنا فنحن نراهم يتناولوه بطعم الحلاوة وهم شاكرين!
الخيار الأول: الانغماس في عالم الصورة بما فيها من إثارة لمشاعر الفضول و رغبة التطاول والاستقواء، رغم العالم الافتراضي الواضح لهم، بيد أنهم يجدون الخيال أفضل من لا شيء يملأ اوقات فراغهم، ويشحذ اذهانهم في زوايا الغرف قبل ان تنشغل بصراعات جانبية مع هذا او ذاك، داخل وخارج البيت.
هذا الخيار يفضله الكثير من الآباء والأمهات في مجتمعاتنا بدعوى تفضيل الهدوء والانحناء على الالعاب الالكترونية المتنوعة داخل البيت على الخروج الى الزقاق واختلاق المشاكل، او التنقل بين جنبات البيت بحثاً عن المشاكل مع هذا او ذاك!
بالنتيجة؛ يكون الطفل أشبه بالمُدمن المترنّح، والخالي من أية مشاعر إزاء نفسه والآخرين.
أما الخيار الآخر؛ فهو تناول النمذجة الغربية للسلوك، فقبل اربعين سنة كان الفتيان في اوربا واميركا يمثلون النموذج الجميل والرائع في الملبس والمأكل والدراسة والحياة العامة، وبسبب الظروف السياسية والاقتصادية القاهرة التي أماطت اللثام عن الوجه الحقيقي والمأساوي للمجتمع الغربي في اوربا واميركا، من حوادث القتل الجماعي، والتمييز والعنصرية والعنف، نلاحظ الاستعاضة بنموذج بِكِر قادم من كوريا الجنوبية، البلد الذي لم يعرف عن العرب والمسلمون الشيء الكثير.
هذا الخيار معروضٌ ومطروح بقوة وبالمجان على الانترنت بمساندة قوية من الهاتف الذكي والمتطور باستمرار في تقديم أكثر الخدمات لمن يرغب أن يكون شخصية يهابه الجميع، او شاباً مستقلاً عن أي التزام وضوابط تقيّد حركته، حتى وإن اصطدمت هذه الشخصية الوهمية بواقع اجتماعي مغاير تماماً لما موجود في هذا الجهاز الصغير الذي يبدو كأنه مصباح علاء الدين السحري.
من أهم ركائز الثقافة الدينية؛ التذكير الدائم بالعواقب وآثار العمل في حياة الانسان على المدى القريب والبعيد، فغضّ البصر للولد والعفّة للبنت ليست مادة قانونية تبحث عمن يلتزم بها، بقدر ما هي استجابة لمخاوف وجدانية وفطرية تطلق إشارات التحذير من داخل نفس الانسان، كما يطلق الدماغ إشارات التحذير عندما ترى العين حفرة في الطريق، او شارع تسير عليه المركبات بسرعة فائقة. هذه الاشارات والاستجابات ربما نجدها في بعض الصور الارشادية لنظام المرور –مثلاً- بيد أن الصورة لن تتمكن من الكلام والتفصيل عن مختلف جوانب الحياة، فلابد من المعلومة والتجربة والعبرة أن تجد طريقها الى الطفل الصغير عبر الكلمات الرقيقة والاسلوب الشيّق والخطاب الرصين بما يجعل الطفل يلتهم الكتب بلذة مع حاجة، وكله أمل بأن تشبع فضوله وتغذي عقله وتقوّم سلوكه، ثم ينهض عن مائدة القراءة وهو شاكرٌ لمن كتب، ومن طبع، ومن سعى للنشر والتوزيع، بل ومن سعى لايصال الكتاب الى غرفته بسعر مقبول.