رأي

ماذا يُقلق شيعة العراق؟

في خضم الحديث عن نتائج الانتخابات البرلمانية في العراق، وظهور اصطفافات وتحالفات جديدة تلغي شيء اسمه “الأغلبية الشيعية في البرلمان”، يبدو أن القنوات الفضائية وعضيدتها؛ الاعلام الجماهيري (سوشيال ميديا)، هم أول المنتصرين ـ قبل الساسة – في هذه الجولة الجديدة من التنافس على السلطة في العراق من خلال نشر مقاطع فيديو ومقالات تتحدث عن دقّ المسمار الاخير في نعش التجربة السياسية الشيعية بعد كل ما حصل طيلة السنوات الماضية، مما ينتج مزيداً من اليأس والكآبة والشعور بالضِعة (احتقار النفس) داخل المجتمع الشيعي، وهو المسعى المستمر منذ سنوات، كما لو أن الكيان الشيعي بمجمله في العراق مرهونٌ بالحكم والسلطة، او بالسياسة بشكل عام.

إن اختزال تاريخ طويل من التضحيات والمنجزات الثقافية والفكرية والانسانية العظيمة على يد أفراد أو جماعات، يُعد ظلماً ومجانبة للعدل والإنصاف، فإذا ابقينا صحفات التاريخ الشيعي المشرق مطوية، يكفينا الالتفات الى الواقع الاجتماعي على الارض حالياً منذ عام 2003، فهو واجه تحديين كبيرين: الممارسات المخزية لبعض الساسة الشيعة، وانباء الفساد والفشل المدوية، هذا من الجانب السياسي؛ أما من الجانب الثقافي، فقد واجه حراكاً سريعاً وقوياً ومنظماً من جهات تعمل على التمييع، والتحلل، ومحاربة كل ما يدعو الى الالتزام والايمان، وما موجود اليوم يمثل انجازاً كبيراً في ظل ظروف كهذه، فما تزال قيم التعاون والتكافل والمحبة والنخوة وغيرها كثير من التقاليد والأعراف والآداب سائدة في مجتمعنا، وإن بنسبة معينة، وهذا بفضل المنبر الحسيني، والمؤسسات الخيرية، والاخرى الثقافية والاعلامية، التي تنشر وتذيع الفكر الاسلامي، وتقيم الدورات التثقيفية للشباب الجامعي وطلبة المدارس في المساجد والجوامع والحسينيات.

إن اختزال تاريخ طويل من التضحيات والمنجزات الثقافية والفكرية والانسانية العظيمة على يد أفراد أو جماعات، يُعد ظلماً ومجانبة للعدل والإنصاف

فمنذ 2003، هنالك طفل يتيم تحول الى شاب مبدع ومنتج، كما تحول متخرج من الجامعة الى مبلغ للثقافة والفكر الاسلامي، وطالب الجامعة تحول الى مُطالع ومتابع لما يجري حوله، الى جانب تعميق الشعور بالرضى والاطئمنان في نفوس أعداد كبيرة من الأرامل والايتام والعوائل المتعففة من خلال مشاريع العطاء والتشغيل وغيرها، كل هذا لم يتم برعاية هذه الشخصية السياسية الشيعية او تلك، ولا بفضل هذه الجهة او ذاك الحزب، إنما كانت بأيدي بيضاء، و رجال تحملوا المسؤولية الرسالية، واليوم أرى يتيماً تحول بمرور الزمن الى عالم دين يؤم المصلين في مسجد، ويشرف على نشاطات ثقافية وتنموية لأيتام آخرين وشباب من عمره وأطفال في اكثر من منطقة سكنية.

الذي يُقلق الانسان الشيعي اليوم ـ وعلى طول الخط – ليس من يحكم، وإنما من يثير الفتن والاضطرابات داخل البيت الشيعي، و يروج للفشل والهزيمة، فالانسان الشيعي لا يهمه الانتصار السياسي والعسكري مطلقاً، وهذه حقيقة تاريخية، بقدر ما يهمه الانتصار المعنوي في الحرب النفسية التي يبدو انها السلاح الجديد الذي يواجهه شيعة العراق اليوم، ولا أدلّ على ما نقول؛ الانتصار الساحق على عناصر تنظيم داعش، فهو لم يأت بقوة عسكرية بالدرجة الاولى، بقدر ما يعود الفضل الى العلاقة الوطيدة والتاريخية بين الجماهير العراقية وقيادة المرجعية الدينية التي بعثت الروح في شيء اسمه “الفتوى”.

أول خطوة للثبات في المواقع الحالية في ظل الاوضاع الراهنة، الفصل التام بين الواقع الاجتماعي الشيعي وبين الواجهات السياسية الشيعية بالكامل

هذه النقاط الايجابية وعوامل القوة في البنية التحتية للكيان الشيعي لا تُهمل، إنما تبقى معرضة لهجمات من نوع خاص في هذه الحرب النفسية من اجل تحقيق هدفين أساس في هذه المرحلة ـ على الأقل- ضمن اهداف ربما عديدة:

الهدف الأول: تعميق المشاعر السلبية في نفوس الافراد والجماعات، وزعزعة الثقة، ليس بالنظام السياسي هذه المرة، وإنما من النظام العقدي، وأن الدين يجب ان يبقى الى جوار مراقد المعصومين والأولياء الصالحين، وفي المساجد والحسينيات فقط، وهذا يتم بفضل تداول آلاف الشيعة لمقاطع فيديو لشخصيات من السنّة غير المتأسفين على المآل السياسي الشيعي الاخير، وهم يتحدثون بشماتة عن التجربة السياسية الشيعية، او يتداولون كتابات تتحدث عن انهيار “الحكم الشيعي” وصعود التحالف السنّي ـ الكردي، وأن الساسة الشيعة سقطوا في دهاليز المؤامرات والتحالفات و… أمثالها كثير.

الهدف الثاني: تمزيق الكيان الاجتماعي الشيعي الى شرائح مقطّعة؛ منهم من يوالي السلطة والحكم بكل ثمن، ومنهم من يوالي العقيدة والقيم والمبادئ، وبكل ثمن ايضاً، الى جانب شريحة البعيدين عن الاضواء والصخب، يهمهم تلبية احتياجات يومهم، وهي الشريحة الأكثر تعرضاً لسهام الحرب النفسية، فهي تتأثر بعامل القوة، سياسية كانت، أو اقتصادية، أو عسكرية، كما تدلنا التجارب الماضية. أول خطوة للثبات في المواقع الحالية في ظل الاوضاع الراهنة، الفصل التام بين الواقع الاجتماعي الشيعي وبين الواجهات السياسية الشيعية بالكامل، علماً أنها كانت كذلك في الماضي، بيد أن اليوم يجب ان يكون الأمر طلاقاً تاماً لا رجعة فيه، ثم الخطوة التالية تعزيز الصفوف، وتغليب المصلحة العامة على المصالح الخاصة، وايضاً على وجهات النظر المختلفة، بين مختلف الاطياف من مهنيين، واكاديميين، وعلماء، ومثقفين والاجتماع على همّ واحد وهو؛ حفظ بيضة التشيّع في نظامه، وتراثه، ومقدساته، والذي من شأنه توفير الضمانة الكبرى للحفاظ على الدين والعقيدة بشكل عام.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا