المقطع الثامن: “اِلـهي اِنْ كُنْتُ غَيْرَ مُسْتاْهِل لِرَحْمَتِكَ فَاَنْتَ اَهْلٌ اَنْ تَجُودَ عَليَّ بِفَضْلِ سَعَتِكَ. اِلـهي كَأَنّي بِنَفْسي واقِفَةٌ بَيْنَ يَدَيْكَ وَقَدْ اَظَلَّها حُسْنُ تَوَكُّلي عَلَيْكَ، فَقُلْتَ ما اَنْتَ اَهْلُهُ وَتَغَمَّدْتَني بِعَفْوِكَ”
“إلهى ان كنت غير مستأهل رحمتك فأنت أهل ان تجود علي بفضل سعتك”.
ما قيمة عملي؟ هل له قيمة حقاً؟! أليس هذا العمل هو بتوفيق الله -تعالى- لي؟ فكيف أنسبه إلى نفسي؟
يتصور البعض أنه لو صلى وصام و حج، فهو يحتجّ بها على الله -سبحانه وتعالى- في يوم الجزاء، وأنه لا يحتاج الى فضل الله عليه، فهو قد عمل بكل واجباته و انتهى عن المحرمات.
-
“اللهم عاملني بفضلك”
من ذلك؛ ما يروى أن رجلاً كان يقول: اللهم عاملني بعدلك ولا تعاملني بفضلك، وكلما قالوا له بأنّ هذا الدعاء غير صحيح كان يصرّ عليه حتى رأى فيما يراه النائم كأن القيامة قد قامت، و الحساب والميزان وهو واقف للحساب، حتى جاءه النداء: عبدي! أ أنت الذي كنت تقول: اللهم عاملني بعدلك ولا تعاملني بفضلك؟
قال الرجل: نعم انا هو. وبدأ بأن يعدد ما أدّاه من الواجبات والفرائض.
حتى إذا انتهى الى كل ذلك جاءه النداء أن قد وضعنا كل اعمالك الصالحة في كفة، و سنضع في الكفة الاخرى نعمة العين فقط، فما أن وضعوا هذه النعمة رجحت على الكفة التي فيها الأعمال.
فناداه الرب والآن، سنعاملك كما عاملت خلقاً من خلقي، وهي الذبابة التي وضعتها في خشبة وشويتها على النار، فسنعاملك بعدلنا.
ففزع الرجل من ذلك و استيقظ من النوم منادياً، اللهم عاملني بفضلك ولا تعاملني بعدلك.
حينما يكون الشخص قد بدأك بالخير فهل رد الجميل منك اليه شيء؟
هذا ما قاله الإمام، عليه السلام، لرجل حجّج أمه على ظهره، ثم سأل الإمام هل أديت حقها؟ فقال له الإمام: انك لم تؤد حق طلقة واحدة مما عانته في ولادتك، فكيف بحقوقها، وحين سأل الرجل عن سبب ذلك، وهو قد تحمل العناء الكثير في هذه الرحلة، قال الإمام، عليه السلام: لأنها حينما تحمّلت ما تحملته لك، لم تكن مَدَينةً لك بذلك، ولكنك تقوم بما تقوم وانت مدينٌ لها بحقوق كثيرة.
هذا هو حال المخلوقات مع خالقها فالله سبحانه وتعالى أنعم علينا إذ خلقنا ثم دعانا الى عبادته قائلاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
فمن أنا؟! وماذا كنت؟! ألم أكن نطفة من منّي يُمنى؟ فمن كان الذي خلقني من التراب و أوجدني من العدم؟ {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
ثم بعد أن أخرجني “إِلَى الدُّنْيَا تَامّاً سَوِيّاً” ومنّ علي بنعمة الوجود، ثم بعد ذلك حفظني الله “فِي الْمَهْدِ طِفْلًا صَبِيّاً”، ولم يكن هذا فحسب بل اجرى في صدر أمي ما احتاجه “مِنَ الْغِذَاءِ لَبَناً مَرِيّاً”، ثم استمرت نعمه حيث عطف “عَلَى قُلُوبِ الْحَوَاضِن” وكفلني “الْأُمَّهَاتِ الرَّحَائِم” وكلأني من طوارق الجان وسلمني “مِنَ الزِّيَادَةِ وَ النُّقْصَان”.
ثم من عليّ الله بأن أكمل لي كل النعم التي منحني إياها فصرت أبصر وأنطق وأتكامل، ثم رباني الله -تعالى- “زَائِداً فِي كُلِّ عَامٍ حَتَّى إِذَا كَمُلَتْ فِطْرَتِي وَ اعْتَدَلَتْ سَرِيرَتِي”، لم تنته هنا نعم الله عليّ بل أوجب عليّ حجته، وكانت من نعمه عليّ أن ألهمني معرفته بما أودعه الله في الكون من الآيات الواضحات الباهرات، و بما أودعه في داخلي من الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها.
ثم هو الذي نبهني لذكره وشكره، و وجوب طاعته وعبادته، ثم واتر الأنبياء والرسل والاوصياء.
ثم رزقني “مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاشِ وَ صُنُوفِ الرِّيَاشِ” بمنه العظيم و إحسانه القديم.
وقد توسعت دائرة النعم الإلهية على الإنسان كلّما كبر، حتى يعجز الإنسان عن وصفها ولكن ما أحلى ما يقوله الإمام الحسين ، عليه السلام، وهو فيما يناجي به ربه في وادي عرفات: “حَتَّى إِذَا أَتْمَمْتَ عَلَيَّ جَمِيعَ النِّعَمِ وَ صَرَفْتَ عَنِّي كُلَّ النِّقَمِ لَمْ يَمْنَعْكَ جَهْلِي وَ جُرْأَتِي عَلَيْكَ أَنْ دَلَلْتَنِي عَلَى مَا يُقَرِّبُنِي إِلَيْكَ وَ وَفَّقْتَنِي لِمَا يُزْلِفُنِي لَدَيْكَ، فَإِنْ دَعَوْتُكَ أَجَبْتَنِي وَ إِنْ سَأَلْتُكَ أَعْطَيْتَنِي وَ إِنْ أَطَعْتُكَ شَكَرْتَنِي وَ إِنِ شَكَرْتَنِي زِدْتَنِي”.
ثم يقول، عليه السلام: “فَأَيُّ أَنْعُمِكَ يَا إِلَهِي أُحْصِي عَدَداً أَوْ ذِكْراً أَمْ أَيُّ عَطَائِكَ أَقُومُ بِهَا شُكْراً وَ هِيَ يَا رَبِّ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهَا الْعَادُّونَ أَوْ يَبْلُغَ عِلْماً بِهَا الْحَافِظُونَ”.
هذا كله وأن ما دفعه الله عني “مِنَ الضُّرِّ وَ الضَّرَّاءِ أَكْثَرُ مِمَّا ظَهَرَ لِي مِنَ الْعَافِيَةِ وَ السَّرَّاءِ”.
بعد هذا كله هل لأحد أن يقول: بأنه مستأهل لرحمة الله؟ كلا؛ وألف كلا.. بل إننا ننظر الى سعة فضل الله -تعالى-.
وهنا لا بأس ان نشير الى الفرق الكبير بين ما ذكره الفلاسفة من قابلية القابل الإمكاني، و غير ذلك من التُرّهات من جهة وبين ما يبينه الإمام عليه السلام هنا من جهة اخرى، فالإمام بمقطع بسيط ينسف جبالا من الفلسفة الباطلة في ذلك، إذ إن الإنسان لا يمكن ان يستأهل، أي لا وجود لقابلية القابل الإمكاني أصلاً، بل كل ما عند الإنسان هو بفضل الله سبحانه.
وهنا وإن جاء التعبير بـ “إن” الشرطية، بمعنى انه لو كنت، ولكن مثل هذا التعبير يحتمل الإستحالة أيضاً، كما في قوله -تعالى-: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}.
ولكن كيف يكون الله أهلاً أن يجود عليّ بفضل سعته؟
لكي نوضح هذا المقطع ينبغي أن نذكّر أنفسنا بأمر فطري قد نعيشه في حياتنا اليومية؛
هل رأيت طفلاً مريضاً قط؟
إنه بطبيعة الحال لا يشتهي أن يأكل شيئاً، وقد أخذ الضعف منه مأخذه، هنا يأتي دور الأم الحنون، حيث تطعمه، حتى وإن كان لا يرغب بذلك، ولكنها تعرف مصلحته وتطعمه لذلك.
تارةً؛ لا يرغب الولد أن يذهب للمدرسة كسلاً، ولكن الوالد الحكيم هو الذي يُصر على ولده بالترغيب، والترهيب بالإستمرار بالدراسة حتى يتخرج الولد ويصبح مفيداً للمجتمع، وصاحب رزق حلال يسد بها معيشته.
والآن؛ إذا عرفت ذلك فاعلم أنه إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمة الله -تعالى-، فرحمته أهلٌ أن تبلغني وتسعني لأنها وسعت كل شيء.
“وأَنَا أُشْهِدُكَ يَا إِلَهِي أَنْ لَوْ حَاوَلْتُ وَ اجْتَهَدْتُ مَدَى الْأَعْصَارِ وَ الْأَحْقَابِ لَوْ عُمِّرْتُهَا أَنْ أُؤَدِّيَ شُكْرَ وَاحِدَةٍ مِنْ أَنْعُمِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَنِّكَ الْمُوجِبِ عَلَيَّ شُكْراً آنِفاً جَدِيداً وَ ثَنَاءً طَارِفاً عَتِيداً أَجَلْ وَ لَوْ حَرَصْتُ وَ الْعَادُّونَ مِنْ أَنَامِكَ أَنْ نُحْصِيَ مَدَى إِنْعَامِكَ سَالِفَةً وَ آنِفَةً لَمَا حَصَرْنَاهُ عَدَداً وَلَا أَحْصَيْنَاهُ أَبَداً هَيْهَاتَ أَنَّى ذَلِكَ وَ أَنْتَ الْمُخْبِرُ عَنْ نَفْسِكَ فِي كِتَابِكَ النَّاطِقِ وَ النَّبَإِ الصَّادِقِ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها صَدَقَ كِتَابُكَ اللَّهُمَّ وَ نَبَؤُكَ وَ بَلَّغَتْ أَنْبِيَاؤُكَ وَ رُسُلُك”.