في أيام الاحتجاجات التي عمّت الوسط والجنوب عام 2019 قرأت تعليقاً لأحد اساتذة الجامعات يشيد فيها بالشباب العراقي وأنه الأقدر على الإسهام في تغيير الوضع السياسي، منتقداً المستهينين بقدرات هذه الشريحة قائلاً: “من تقولون أنهم شباب البوبجي فانهم من “يسوون شغل”! وقد حملت الكلام على المحمل الحَسِن كون ابناء هذه الشريحة مملوئين بطبيعتهم، حيوية وحماساً وقدرة على التفاعل مع الجديد والمثير، ولذا كنا نجد الغالبية العظمى من المشاركين في الاحتجاجات بالشوارع والساحات، هم من شريحة الشباب، وقد أزهقت أرواح العديد منهم في ظروف غامضة، فيما تعرض آخرون لجروح خلال المصادمات مع القوى الأمنية.
جاءت مطالب المتظاهرين والمحتجين تباعاً؛ إسقاط العملية السياسية برمتها، والإطاحة بكل الفاسدين في الحكم، ثم المطالبة بتنحّي رئيس الوزراء عادل عبد المهدي عن منصبه وتشكيل حكومة جديدة، ثم المطالبة برئيس وزراء جديد يشرف على إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، مع تغيير قانون “سانت ليغو” وإلغاء الدائرة المغلقة التي كانت مفتاح تلاعب الاحزاب بنتائج الانتخابات، وهذا المطلب الاخير هو الذي وجد طريقه للتنفيذ لقربه للواقع، وقد تنافس على كرسي الرئاسة الذي تخلّى عنه عبد المهدي، عدّة شخصيات ليكونوا ممن ينفذوا مطالب الشباب في ساحات التظاهر في بغداد والمحافظات الجنوبية، وهو ما فاز به مصطفى الكاظمي، وأعلن مؤخراً نجاحه في تحقيق أمنية الشباب والشعب العراقي.
ولكن السؤال الذي يقفز هنا؛ منذ الايام التي تخلّى فيها الشباب عن ساحات التظاهر والى الايام الاخيرة لموعد الاقتراع والأدلاء بالاصوات في الانتخابات الاخيرة، أين كان المئات والآلاف من شباب التظاهرات والاحتجاجات؟ وما الذي كانوا يفكرون فيه؟
الكثير أعرب عن أسفه من غياب الشباب في هذه الانتخابات، حتى كان منظر خلو مراكز الاقتراع من الاعمار بين 18الى 25سنة، أمراً محزناً حقاً، فيما كان معظم المشاركين هم من كبار السن، بل وقد سجلت عدسات الكاميرات دخول شيوخ وعجائز طاعنين في السن. فيما ذهب آخرون الى التصنيف القديم للساحة الاجتماعية بين الواعي والساذج، وبين المتعلّم والأمي، وهكذا… على أن الواعي هو الذي شارك، والساذج هو الجالس في بيته، في حين التجارب الديمقراطية في العالم تؤكد أن الحضور في مراكز الاقتراع؛ سواءً في الانتخابات البرلمانية او الانتخابات الرئاسية ليست بالضرورة معياراً للتفاضل الاجتماعي، فربما تكون المقاطعة عن وعي، بينما المشاركة عن انقياد وشراء للصوت مسبقاً سذاجة، وهذا سائد في كل مكان، ولا ينبغي ان نتوقع من الديمقراطية أكثر من هذا، إنما الوعي في أصل المشاركة وليس في ذات الانتخاب والاختيار، وهذا ما لم يتبلور لشبابنا –مع بالغ الأسف- بينما جرى التثقيف والترويج العكسي في بعض وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي على أن الوعي الشبابي في التشكيك، والبقاء على النظرة السلبية السوداوية إزاء الوضع السياسي برمته في العراق، وأن لا أمل في تغيير الاوضاع وتحول العراق الى واحة خضراء من السعادة والرخاء!
والأسف الآخر والأشد على الشريحة المثقفة التي تركت الشباب في بيوتهم دون وعي انتخابي، كما تركتهم في الشارع دون وعي سياسي، فكما كانت هناك أصوات تشحذ الهمم وتلهب الحماس في الشباب في الشوارع، كان يفترض ان تكون ثمة أصوات تدعو الى عدم التفريط بحقهم ودورهم في التأثير على نتائج الانتخابات، وأن الجلوس في البيت يعني هدر كل الجهود والدماء التي بذلت طوال اكثر من سنة على الاحتجاجات والصدامات الدامية.
غاب الشباب، وهو الشريحة الاكبر في تعداد سكان العراق، عن المشهد الانتخابي، وقبله عن الذهاب الى المراكز الانتخابية لتحديث بطاقاتهم، فقد بقيت مصفوفة وسيكون مصيرها الحرق، كما تم حرق حوالي خمسة ملايين بطاقة تخلّى عنها اصحابها في انتخابات 2018، فربما انجزت المفوضية المستقلة للانتخابات مليون أو أكثر ممن بلغ عمرهم الثامنة عشر، وكان عليهم الحضور في مكاتب المفوضية للتحديث ليستلموا بطاقاتهم مع صورهم الجميلة، وهذا لم يحصل، وربما استلمها البعض ثم ألقاها في إحدى زوايا البيت.
كانت المرة الاولى التي يشهد فيها العراق انتخابات بقانون الدوائر المتعددة، وأن الشباب بامكانهم إدخال من يريدون من المرشحين الى قاعة البرلمان بانفسهم، دون تدخل من حزب سياسي او رئيس قائمة وشخصية كبيرة مهما كانت، وقد لاحظنا في هذه المنافسة الاخيرة دخول اسماء جديدة ومستقلة، بعيدة عن الانتماءات الحزبية والفئوية، من ذوي الفكاءات العلمية والسمعة الاجتماعية الطيبة.
ولكن؛ غاب الحضور الواعي للشباب فخسر العراق صعود العدد الأكبر من المستقلين والكفاءات البعيدة عن الانتماءات التي طالما ينظر اليها العراقيون بعين الريبة والشك والتي تقف خلف كل هذه المعاناة والازمات، وكل اشكال الفساد في العراق، وليكون دور الموجودين حالياً في البرلمان ضعيفاً مقابل الكتل الكبيرة والاسماء المعروفة، على أمل أخذ العبرة في الانتخابات القادمة، والحياة تجارب.