غير مصنف

ظاهرة التباهي في المجتمع تقتل الفقير اقتصادياً

الآيات الأولى توجه اللوم إلى المتكاثرين المتفاخرين وتقول: {أَلْهَاكُمُ} من اللهو: وهوالانشغال بالأعمال الصغيرة والانصراف بها عن ….

بسم الله الرحمن الرحيم

{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}، (سورة التكاثر: 1-8)
الآيات الأولى توجه اللوم إلى المتكاثرين المتفاخرين وتقول: {أَلْهَاكُمُ} من اللهو: وهوالانشغال بالأعمال الصغيرة والانصراف بها عن الأعمال المهمة والكبيرة.
{التَّكَاثُرُ} أي التفاخر والمباهات، والمعنى على ما تسير عليه من سياق الآية؛ شَغَلكم التكاثر في متاع الدنيا وزينتها والتسابق في تكثير العدّة والعدد، عما هو خير لكم؛ وهو ذكر الله تعالى، حتى لقيتم الموت على ذلك بسبب غفلتكم مدى حياتكم.
والآيات التالية فيها تهديد شديد لهؤلاء المتكاثرين: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي ليس الأمر كما ترون وبه تتفاخرون، بل سوف تعلمون عاجلاً نتيجة هذا التفاخر الموهوم، {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}، (سورة ق: 22) {ثُمَّ كَلَّا} فهو ردع وتنبيه على انه لا ينبغي أن تكون الدنيا جميع همّ الإنسان، فينشغل بها عن أمور دينه، {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وعيد ليخافوا أو ليتنبّهوا عن غفلتهم، و التكرار تأكيد للردع ولإنذارهم، وفي {ثُمَّ} دلالة على أنَّ الإنذار الثاني أشد من الأول، أي سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول المطلع. (1)

  • بلاء التكاثر والتباهي

{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}، كلا ليس الأمر كما تظنون أيها المتفاخرون المتكاثرون، فلو أنكم تعلمون الآخرة علم اليقين لما اتجهتم إلى التفاخر والمباهاة بهذه المسائل الباطلة، وفيه اشارة إلى أن العلم بلا عمل هو الجهل بعينه، وفي ذلك يقول الإمام علي عليه السلام: “الْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ ارْتَحَلَ عَنْهُ”(2)، ولمزيد من التأكيد والإنذار تقول لهم الآيات التالية: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}، أي في يوم القيامة سيتحقق، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ}، (سورة النازعات: 36)، والمراد رؤيتها قبل يوم القيامة، رؤية البصيرة، وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}، (سورة الأنعام: 75)، وقد تقدم الكلام فيها، وهذه الرؤية القلبية قبل يوم القيامة غير محتققة لهؤلاء المتنعمين المتكاثرين، بل ممتنعة في حقهم لامتناع اليقين عنهم(3).
{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}، أي في ذلك اليوم عليكم أن توضحوا كيف أنفقتم تلك النِعم الإلهية، وهل استخدمتموها في طاعة الله تعالى، أم في معصيته؟ أم أنكم ضيعتم النعمة ولم تؤدوا حقها؟
وظاهر السياق أن الخطاب {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}، وكذلك الخطابات المتقدمة في السورة موجهة للناس، بمن فيهم من اشتغل بنعمة ربه فأنساه التكاثر فيها عن ذكر الله، ومع أن السورة الكريمة، وما حوته من تهديد وتقريع موجهة إلى عامة الناس ظاهرأ، بيد انها تشير الى طائفة خاصة منهم ممن ألهاهم التكاثر.
وايضاً؛ ظاهر السياق أن المراد بالنعيم، مطلقة؛ وهو كل ما يصدق عليه أنه نعمة، فالإنسان مسؤول عن كل نعمة أنعم الله بها عليه، سواءٌ أ كان نعمة العقل الذي حبسه البعض في أسر الشهوات، أو نعيم الحياة التي أستحالها البعض الى حياة البهائم، {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ}، (سورة الأحقاف: 20)، و نعمة الرسالة أهم النعم التي يُسأل عنها الانسان؛ {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، (سورة المائدة: 109) فاستعمال هذه النعم على نحو يرتضيه الله تعالى، وينتهي بالإنسان إلى غايته المطلوبة؛ هو الطريق إلى بلوغ الهدف الأسمى، وهو الطاعة، أما اتخاذها رصيداً مجمّداً، ونسيان ما وراءها في حساب وكتاب، فهي المعصية، وقد قضى سبحانه قضاءً لا يُرد ولا يبدل، أن يرجع الإنسان إليه فيسأله عن عمله فيحاسبه ويجزيه، وعمله هو استعماله للنعم الإلهية، {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ * وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ}، (سورة النجم: 39-42)، والسؤال عن عمل العبد هو السؤال عن النعيم كيف استعمله، أ شكر النعمة أم كفر بها؟

  • مظاهر التباهي في المجتمع

من الآيات الكريمة في سورة التكاثر يتضح أن أحد العوامل الأساسية للتفاخر والتكاثر والمباهاة هو الجهل بجزاء الآخرة وعدم الإيمان بالمعاد.
والحديث عن ظاهرة التباهي بين الناس، يتوزع على مختلف الشرائح والطبقات الاجتماعية، بل وبين الرجال والنساء، وحتى بين الأطفال وذويهم؛ والتباهي يكون في مختلف الأمور؛ بالمال، والجاه، والنفس، والصدقة، وفعل الخير، وبالأنساب وغير ذلك.
ولعل التطور التكنلوجي اليوم ساعد كثيراً على انتشار ظاهرة التباهي بين الناس، فعلى مستوى العائلات تتباهى بعضهم على بعض، فمثلاً هذه العائلة تتباهى على الأخرى بانها تقيم أفراحها ومسراتها في صالات كبيرة وضخمة، وتقدم لضيوفها أفضل الأطعمة والأشربة.
وقد انتشرت هذه الظاهرة وللأسف بين الناس؛ بحيث أصبح كل فرد يباهي الآخر بذلك، دفعاً للإحراج، و إظهاراً للمقدرة امام الناس، يسعى غير المستطيع لفعل ما لا يستطيع، وهذه تؤدي إلى نشوب خلافات بين الأفراد والعائلات، وتزرع نوعاً من الكراهية وغياب العقل والإسراف في الإنفاق، والتكلّف، والتبذير، والرياء، وغيرها من الانحرافات السلوكية والاخلاقية.

  • التباهي والتفاخر في كل شيء

أما ما يحدث بين الرجال أنفسهم؛ فهذه الظاهرة بارزة لديهم في أمور عديدة، ربما لا يفكر الفرد أن يعمل عملاً معيناً إلا والآخر يعمل مثله، فإذا اقتنى هذا جهازاً إلكترونياً تباهى به على الآخرين، وفي كثير من الحالات المتباهى عليه، غير مستطيع فيكلف نفسه مادياً، بل ويقترض من الآخرين لكي يظاهي الآخر.
إن ظاهرة التباهي قتلت الفقير اقتصادياً، فهو مع كونه لا يستطيع أن يشتري حاجاته الأساسية، فهو يسعى لأن يبرز مقدرته الظاهرية، رغم انه يعجز في كثير من الاحيان من أن يوفر مستلزمات حياته الضرورية.
وهذا الفقير اليوم نجده ضمن الشريحة الفقيرة، او دون المتوسطة، من أصحاب الرواتب الضعيفة، ومما يؤسف له في بعض الأحيان، تجد هؤلاء الذين هم تحت خط الفقر يملكون ما لا يملكه أصحاب الرواتب العالية.
ونجد بعض الميسورين يوجهون اللوم والنقد الى إخوانهم أو أقاربهم بعدم اللحاق بهم باقتناء الاجهزة الحديثة، ووسائل العيش الرغيد، هذا اللوم اذا لا يؤثر على الكبار في السن، لمعرفتهم بواقع الحال، فانه يؤثر سريعاً على الابناء المحبين لكل جديد، لاسيما ما يتعلق بالموبايل والحواسيب واجهزة الالعاب وغيرها، غافلين عن عدم قدرة الآباء على شراء اجهزة من هذا النوع، وهذا من شأنه ان يوقع الآباء في حرج شديد، وربما يخلق مشاكل نفسية وأزمات وخلافات داخل الاسرة الآمنة.
هذه الحالة والظاهرة نراها اكثر شدّة وتعقيداً عند النساء، فالتسابق على شراء الأحدث والأحسن، أمرٌ لابد منه، ولا يقتصر الامر على المقنيات البيتية، بل يشمل كل شيء في الحياة، من صالات الاحتفال وموديل وماركة السيارة، وحتى المطاعم والاماكن التي يرتادونها لمجرد السياحة، بل واحياناً يصل الأمر الى الطبيب او المستشفى التي توفر العلاج للمرض!!
ومن أخطر ما تتركه ظاهرة التباهي من آثار سيئة، هي الحياة الزوجية، فقد شهدت مشاريع زواج عدّة حالات سباق محموم وتنافس غريب على الاثاث والمجوهرات وصالات الاحتفال، فضلاً عن مقدار المهر، وحجم، ونوعية الولائم، وهذا ما خلق نوعاً من العقد النفسية للشباب المقبلين على الزواج من الجنسين، الامر الذي يستدعي أولياء الأمور ان يفكروا قبل كل شيء بمستقبل ابنائهم، ثم ان يعوا أمرين:
1- مصيرنا بعد هذه الحياة الدنيا، فإذا كان همنا التباهي والتفاخر بين الناس، فالذي ينتظرنا هو الويل والعقاب الشديد، كما ورد في سورة التكاثر.
2- مصيرنا الإقتصادي الاجتماعي في الحياة، فكل أسرة اليوم ترغب في تنظيم شؤونها المستقبلية، وهذا لا يتم مع التباهي والتفاخر، لان الانسان المقبل على الزواج، والمتحفز لتشكيل أسرة والعيش براحة واطمئنان، سيجد نفسه يجري ويلهث خلف سراب الأكمل والأحسن، مهما كلفه ذلك من جهود عضلية وذهنية وإرهاق وضغوطات نفسية.

———————–
(1) تفسير جوامع الجامع/ الشيخ الطوسي/ ج4/ ص531.
(2) الكافي/ ط – الإسلامية/ ج1/ ص44.
(3) الميزان في تفسير القرآن/ ج20/ 352.

عن المؤلف

أحمد الشرع

اترك تعليقا