خرج شابٌ صغير ـ تقول الروايات – يجرّ سيفه، ووقف بإزاء الامام الحسين، عليه السلام، يستأذنه للقتال والاستشهاد بين يديه، كما فعل سائر الأصحاب.
نظر اليه الإمام، عليه السلام، وعرفه فقال:
هذا الشاب قُتل أبوه في الحملة الأولى، وأخشى أن تكره أمه خروجه.
الامام الحسين، وهو في تلك اللحظات العصيبة، حيث لا ناصر ولا معين، تكون له هذه الالتفاتة الاخلاقية الرائعة، فيقدم درساً في الاخلاق والآداب للمجتمع، ويعطي الأم منزلتها عند الابناء مهما كانت الظروف.
تقول الروايات: ذهب الشاب وعاد مع أمه ليطمئن الإمام على أن خروجه برضى منها، وتلك الأم لم تكن كأيّة أم، فقد أثبتت أنها جزء من النهضة الحسينية، وليست بعيدة عن مسيرة التضحيات، فكانت قد أعدت ابنها وجهزته للقتال.
الى هنا انتهى دور الأم، و برز دور الشاب البطل الصغير في حجمه، الكبير في روحه وعزيمته، فمعظم الذين خرجوا بين يدي أبي عبد الله الحسين، عليه السلام، لقتال جيش عمر بن سعد، انتسبوا لانفسهم، كما هي العادة لدى العرب عندما يبرزون للقتال، يعرّفون أنفسهم حتى يعرفهم الطرف المقابل، وليثبتوا جدارتهم أمام الناس.
وفي مقدمة هؤلاء؛ أبي الفضل العباس الذي خرج يطلب الماء للاطفال، ولم تكن في نيته خوض القتال مع القوم، بيد أنه خاطب الجموع الحائلة بينه وبين ماء الفرات:
إني أنا العباس أغدو بالسقا ولا أخالف الموت يوم الملتقى
وهذا الحر الرياحي الذي أنشد:
إنّي أنا الحرّ ومأوى الضيف أضرب في أعناقكم بالسيف
عن خير مَن حَلّ بلاد الخيف أضربكم ولا أرى من حيف
وهذا حبيب بن مظاهر الأسدي خرج وهو يقول:
أنا حبيب وأبي مظاهر وفارس قوم ونار تسعر
وأنتم عند العديـد أكثر ونحن أعلى حجة وأظهر
وهكذا كان دأب معظم اصحاب الامام الحسين
ولكن! هذا الشاب الصغير لم يكن كغيره من الاصحاب، فهو لم ينتسب لنفسه، حتى لم يذكر أباه الشهيد، وهي مسألة تستوقفنا للتأمل ملياً، فكان بوسعه الانتساب لنفسه وأنه “ابن الشهيد” –مثلاً- ولكنه بدل كل هذا قال:
أميري حسين ونعم الأمير سرور فؤاد البشير النذير
علـيّ وفاطمـة والــداه فهل تعلمون لـه من نظير
له طلعة مثل شمس الضحى له غــرّةٌ مثـلُ بدر منير
هذا الشاب البطل الذي تمكن بكل شجاعة وبطولة تسجيل اسمه بين شهداء الطف الخالدين، أبى إلا أن يجعل انتمائه للإمام الحسين فوق اسمه ونسبه.
هذه هي أخلاق المجاهدين الحقيقيين، كما فعلها مسلم بن عوسجة وهو في الرمق الأخير، وأمامه حبيب بن مظاهر، والامام الحسين، عليه السلام، فأوصى حبيب بأن “أوصيك بهذا أن تموت دونه”.
بمقدار ارتفاع الانسان من ذاته ومسمياته وامتيازاته، يكون سموّه، ونتائج اعماله الحسنة والمؤثرة في المجتمع، لاسيما اذا كان العمل مرتبط بشخص الامام الحسين، وبالمراسيم الخاصة بتخليد ذكراه، فهي منظورة من قبل الامام نفسه، كما هي منظورة من رسول الله، وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء، وهي قبل هذا منظورة من الله –تعالى-، وما كان لله ينمو.