- مقدمة سياسية
السياسة في الحياة هي القمَّة التي يتحارب أصحاب الطموح للوصول إليها والتربُّع عليها لما فيها من سلطان وبهرجته، والصولجان وبريقه، وفيها ما فيها من الوجاهة، والقوة، والتحكم بالشؤون العامة للمجتمع.
وأصل السياسة في اللغة العربية، ثم في الدِّين الإسلامي هي من تربية وتعاهد الخيول لترويضها ، وانتقلت كمفهوم إلى تربية وقيادة المجتمع البشري، فصار مفهوم السياسة تعني؛ إدارة الدولة بكل مؤسساتها، الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والدفاع عن الأمة ومصالحها في مواجهة الأعداء.
وهنا نتساءل عن الحياة السياسية والظروف الاستثنائية التي عاشها الإمام السادس من أئمة المسلمين الإمام جعفر بن محمد الصادق، عليه السلام، وما هو موقف الإمام، عليه السلام، من ساسة ذاك العصر الذي عاشه الإمام وهو أطول الأئمة عمراً.
- السياسة في عهد الإمام الصادق عليه السلام
في الحقيقة أن الإمام الصادق، عليه السلام، عاش في عصرين متناقضين سياسياً لأنه عاش مخضرماً بين العصر الأموي المتهالك، والعباسي المتصاعد والمتنامي، ولذا كان عصره متأرجحاً بين سقوط بني أمية المجرمة، وصعود بني العباس الظالمة، ولكن باسم وتحت رعاية ودعوة أهل البيت، عليه السلام، الذين كان الإمام الصادق، عليه السلام، رأسهم، ورئيسهم دون منازع.
فالإمام الذي عاش من (83 حتى 148 هـ) بكل ما فيها من تقلبات، وثورات سياسية على الحكم الأموي الظالم، حيث رافق والده الإمام محمد الباقر مراراً إلى الشام حين كان يستدعيه الأدعياء من حكامها الأمويين، ليقتلوهما ويُنكلوا بهما كما في التاريخ السياسي لتلك الفترة، إلا أن الله تعالى كان يحفظهما ويرد كيد الأعداء في نحورهم.
وهو الذي سحب البساط من تحت الحركة العباسية بعد أن حاولت استغلال اسمه، والتحرك تحت رايته، بدعوى (إلى الرضا من آل محمد)، كما كتب له ابو سلمة الخلال، وكان أحد قادة الحركة العباسية، ودعاه فيها لتسلم القيادة كيداً ومكراً إلا أن الإمام الصادق، عليه السلام، بحنكته وحسن سياسته فوَّت عليه ذلك، و يروي سماحة السيد المرجع محمد تقي المدرسي (حفظه الله) في كتابه الرائع (التاريخ الإسلامي) يقول: “بعد دخول أبو مسلم الخراساني العراق قاصداً احتلال الكوفة المعروفة بتشيعها للإمام الصادق، عليه السلام، يكتب رسالة إلى الإمام الصادق قال فيها: ” يا ابن رسول الله، كنا ندعو إلى الرِّضا من آل محمد، والرِّضا من آل محمد هو أنتَ، وإنّا ندعو إليك والأمر قريب، وقد نصبنا أبا مسلم وآخرين في مختلف الأمصار”.
ولأن أبا سلمة الخلال كان يعلم رفض الإمام الصادق، عليه السلام، لما بعث به إليه، كتب نسخة ثانية من الكتاب ووجهها بيد نفس الرسول وهو محمد بن عبد الرحمن بن أسلم، وكان جده مولاً لرسول الله، صلى الله عليه وآله، إلى عبد الله بن الحسن، وجاء هذا الرجل بالرسالة إلى الإمام الصادق، عليه السلام، وكان هناك مصباح زيتي فوضعها عليه فاحترقت، وقال الإمام عليه السلام: “وما أنا وأبو سلمة؟ وأبو سلمة شيعة لغيري“؟
وعندما رأى الرجل ذلك المشهد وكان قد ائتمنه أبو سلمة الخلاّل على سر كبير قال: “يابن رسول الله، الجواب؟ فأجابه عليه السلام: عرِّف صاحبك بما رأيته“. (أي بحرقه للكتاب قبل قراءته له).
فتعجب الرسول وقال: عجباً إنْ أحداً تُعرض عليه الخلافة فيرفض، ثم ذهب إلى عبد الله بن الحسن، فجاء أبو محمد عبد الله بن الحسن إلى الإمام الصادق، عليه السلام فقال: “يا أبا محمد بهذا الكتاب أبي سلمة يدعوني إلى ما أقبله وقد قدمت عليه شيعتنا من أهل خراسان”.
فقال له أبو عبد الله، عليه السلام: “يا أبا محمد؛ ومتى كان أهل خراسان شيعة لك؟ أنتَ بعثت أبا مسلم إلى خراسان؟، وأنت أمرته بلبس السواد؟ وهؤلاء الذين قدموا إلى العراق أنتَ كنتَ سبب قدومهم أو وجَّهتَ فيهم؟ وهل تعرف منهم أحداً؟”، فنازعه عبد الله بن الحسن الكلام، إلى أن قال: إنما يُريد القوم ابني محمداً لأنه مهدي هذه الأمة، وقال للإمام: والله ما يصنعك من ذلك إلاّ الحسد، فقال أبو عبد الله، عليه السلام: “والله ما هذا إلا نصحٌ منِّي لك، ولقد كتب إليّ أبو سلمة بمثل ما كتب به إليك، فلم يجد رسوله عندي ما وجد عندك، ولقد أحرقت كتابه من قبل أن اقرأه”، فانصرف عبد الله من عند الإمام جعفر الصادق مغضباً ” (التاريخ الإسلامي دروس وعبر: ص135 عن مروج الذهب).
- الإمام الصادق عليه السلام العملاق في كل شيء
فعلاً مَنْ يدرس حياة وسيرة الإمام جعفر الصادق، عليه السلام الذي كان عملاقاً بكل معاني الكلام، فهو الإمام الذي ملأ الدنيا وشغل الناس لقرون طويلة ومازال يشغلهم إلى هذا العصر حيث الحضارة الرقمية والتفجر العلمي، لما له من نظريات أبهرتهم كما في كتاب (الإمام الصادق بنظر علماء الغرب)، تلك الندوة العلمية التي جمعت مفكرين وعلماء من كل أصقاع الدنيا على مائدة رئيسها وقيِّمها الإمام السادس من أئمة المسلمين جعفر الصادق، عليه السلام.
ولا غرو في ذلك وقديماً قال عنه الجاحظ: “فجَّر الإمام الصادق “عليه السلام” ينابيع العلم والحكمة في الأرض وفتح للناس أبواباً من العلوم لم يعهدوها من قبل وقد ملأ الدنيا بعلمه”، فهو وريث المدرسة الباقرية التي أسسها وبقر علومها والده العظيم الإمام محمد الباقر، عليه السلام، فوصلت به الحال ليكون لديه في جامعته في وقت واحد أربعة آلاف تلميذ، ويذكر العلماء أن مجموع تلاميذه اثنا عشر ألف تلميذاً في مختلف أنواع وصنوف العلوم الدينية والدنيوية، الشرعية والإنسانية وحتى الكونية.
ولكنه اصطدم أولا بالسياسة الأموية الظالمة التي حاربه أقزامها من الحكام لأنهم عاشوا في نهاية حكمهم الذي يصفه سماحة السيد المرجع بقوله: ” الواقع أن الدولة الأموية انتهت منذ عهد هشام بن عبد الملك، والذين أتوا من بعده كانوا أربعة خلفاء أولهم حكم سنة وبضعة أشهر، والثاني خمسة أشهر، والثالث شهرين، والرابع كان عهده عهد الحروب لا عهد الملك.
وهؤلاء لم تكن لهم هيبة الملك والسلطة وكلهم كانوا مشغولين باللهو والخلافة، وقسم كبير من الخلفاء الأمويين عندما جاؤوا إلى الخلافة لم تكن البلاد البعيدة تعرف أنهم أصبحوا خلفاء، وهذا يدلُّ على أن الدولة (الأموية) قد زالت بنهاية أيام هشام بن عبد الملك”.
وأما ساسة العباسيين فهم كانوا طغاة وجبارين ويعلمون جميعاً أن الدعوة كانت للإمام الصادق، عليه السلام، ولكنه رفضها بل هو الذي بشَّرهم بالوصول إلى سدَّة الحكم، وهذا ما ترويه كتب التاريخ ونأخذها من سماحة السيد المرجع أيضاً، حيث ينقل الحوار الطويل الذي دار بينه وبين بعض رؤوس الهاشميين.
فقال الإمام جعفر الصادق، عليه السلام: “لا تفعلوه فان هذا الأمر لم يأت بعد، وإن كنتَ ترى – يعني عبد الله – أن ابنك هذا هو المهدي فليس به، وإن كنتَ إنما تريد أن تخرجه غضباً لله ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإنّا والله لا ندعك وأنت شيخنا، ونبايع ابنك“.
فغضب عبد الله وقال: لقد علمتُ خلاف ما تقول ووالله ما أطلعك الله على غيبه، ولكن يحملك على هذا الحسد لابني.
فقال، عليه السلام: “والله ما ذاك يحملني ولكن هذا وإخوته وأبناؤهم دونكم – وضرب بيده على ظهر أبي العباس، ثم ضرب بيده على كتف عبد الله بن الحسن – وقال: إنها والله ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنها لهم، وان ابنيك لمقتولان“.
ثم نهض، وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال: أ رأيت صاحب الرداء الأصفر – يعني أبا جعفر المنصور – ؟ قال: نعم، قال: فأنا والله نجده يقتله، قال له عبد العزيز: أ يقتلُ محمداً؟، قال: نعم؛ قال: فلما قال جعفر ذلك انفضّ القوم وافترقوا ولم يجتمعوا بعدها”.
هكذا كان يُبيِّن الإمام الصادق، عليه السلام، الحقائق لأولئك المغرورين، والمغرَّر بهم فلم يقبلوا منه نصحه بل يتهمونه بالحسد مراراً وتكراراً، وهو من معدن الولاية والرحمة في هذه الأمة، فكان – روحي فداه – محارَباً من أقزام السياسة الأموية، والعباسية على حدٍّ سواء.
السلام عليك سيدي ومولا وإمامي يوم ولدتَ، ويوم استشهدتَ، ويوم تُبعث حياً.