يقول الإمام زين العابدين، عليه السلام”اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَلا تَرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَةً إِلاَّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، وَلا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِراً إِلاَّ أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا“.
هناك رياضة أشبه بلعبة ولكنها تصنف من الرياضات في العالم، وهي رياضة التوازن، فمثلا يضعون حبلا في منطقة عالية، ويجب على الشخص أن يمر عليه، وإذا مال هذا الشخص يمنياً أو شمالا اكثر من الطرف المقابل فإنه سيسقط، ولذا فإنه يحاول المحافظة على حالة التوازن بمئة بالمئة.
فيما يرتبط بعملية بناء النفس والأخلاق عند الإنسان، فإن الأمر كذلك، لا بد من وجود حالة من التوازن، وهذا ما أكدت عليه الروايات الشريفة، فمثلا حين تتكلم الروايات عن الخوف من الله تجعل نوعا من التوازن، عن الإمام الصادق، عليه السلام: “ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفا كأنه يشرف على النار، ويرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة“، وعن أمير المؤمنين، عليه السلام: “إن استطعتم أن يشتد خوفكم من الله وأن يحسن ظنكم به فاجمعوا بينهما، فإن العبد إنما يكون حسن ظنه بربه على قدر خوفه من ربه، وإن أحسن الناس ظنا بالله أشدهم خوفا لله“.
والقرآن الكريم في آياته الشريفة، يوجد نوعا من التوازن العجيب، فمثلا في سورة الإنسان، يبدأ في وصف هذا المخلق، وأنه لم يكن شيئا ثم كان، ثم يعرج الى الجنة، وثياب السندس والاستبرق..، ثم في آخر السورة يأتي بآيات العذاب، حتى لا تحدث عند الإنسان حالةَ رجاءٍ مطلقة، ولا يقع في حالة خوف تامة.
والإمام زين العابدين، عليه السلام، يشير الى مثل هذه الفكرة في عملية البناء الأخلاقي؛ يقول، عليه السلام: “اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَلا تَرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَةً إِلاَّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، وَلا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِراً إِلاَّ أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا“، فالله تعالى قد يرفع الإنسان درجة، وهذا اللفظة ـ درجة ـ جاءت بصيغة النكرة، مما يعني أي درجة، سواء كان الإنسان عالم دين، او طبيب، او مهندس، فالإمام السجاد، يشير الى انه: مهما ارتفعتُ يا رب درجة الإنسان عند الناس، فإنه يجب أن يكون بقدرها ـ عندي ـ ذلة نفسية داخلية، لأن أدنى اختلاف بين الدرجة والمقام الظاهري، و بين الذل النفسي، فإن هذا الإنسان يسقط.
قد نرى إنسانا، عزيزا ، وقورا، ولكن بمجرد قضية او مشكلة ما فإنه يسقط، حينها ينتابنا العجب! إذ لم يُحدِث أي توازن بين ظاهره وباطنه، فالخيلاء النفسية تُنسي الإنسان حقيقة نفسه، التي يعبر عنها الإمام علي، عليه السلام بقوله: “مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، وَلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ”، ويقول، عليه السلام في حديث آخر: مِسْكِينٌ اِبْنُ آدَمَ مَكْتُومُ اَلْأَجَلِ مَكْنُونُ اَلْعِلَلِ مَحْفُوظُ اَلْعَمَلِ تُؤْلِمُهُ اَلْبَقَّةُ وَ تَقْتُلُهُ اَلشَّرْقَةُ وَ تُنْتِنُهُ اَلْعَرْقَةُ.
كان درس بحث الخارج الذي يلقيه الآخوند الخرساني، من أقوى الدروس آنذاك، فقد كان يحضره الآف الطلاب، وكتابه الكفاية، لا زال يدرس في الحوزات العلمية الى اليوم، ومن عادة درس البحث في الحوزة، أن الطلاب يُشكلون في المسائل التي تطرح، والاستاذ يجيب عليهم، لكن المرحوم الآخوند اقترح على طلبته ان يؤجلوا الاشكالات الى بعد الدرس.
وفي احد الأيام وبينا الآخوند يلقي الدرس، إذ قام احد الطلبة وطرح اشكالا معينا، فقال له الآخوند: الاشكالات تم تأجيلها بعد انتهاء الدرس.
فقال ذلك الطالب للآخوند: نحن الآن في درس البحث، ويجب الرد على الإشكال، أم انك لا تعرف الرد!
وبعد أن ألح الطالب على الاستاذ؛ قام ـ الطالب ـ وقال: لقد اصبحت كبيرا في السن، ولحيتك شيّبَت، ولكنك لم تصبح آدميا! (بهذا الكلام وجه الطالب الى الاستاذ اهانة امام الجميع).
عندها أطرق الآخوند برأسه الى الأرض ثم قال: “كلامك صحيح؛ أني كبرت ولم اصبح آدميا، لأن الوصول الى الى تلك المرحلة يتطلب الكثير من العمل”. وكانت هذه هي أخلاق أئمتنا، صلوات الله عليهم، أنهم كانوا يسمعون من الطرف المقابل.
وهناك عشرات الأمثلة من علمائنا ومراجعنا العظام، الذين وصلوا الى مرحلة التوازن بين المقام الظاهري، والذلة النفسية الداخلية، وإذا كان البعض يتهرب من هذه الحقيقة، ويقول: أن الائمة فقط هم الوحيدون من يستطيعون ذلك! فإن الجواب على ذلك: ان هناك من العلماء من وصل الى الدرجة؛ فلماذا لا نصل نحن؟