من قصص التاريخ المشجية، بل من حقائقه المخزية، موقف قريش من الأنصار بعد أن تمكّن الإسلام بسيوف الأنصار وفي مدينتهم، وتحت حمايتهم ورعايتهم، وكبير تضحياتهم في سبيل الله، أن تعاملهم قريش الحاكمة فيما بعد هذه المعاملة الفظة الغليظة، ثم توقع بهم وقعة لم يشهد التاريخ الإسلامي أفظع وأشنع منها بعد واقعة الطف المأساة الخالدة.
و كم كان رسول الله، صلى الله عليه وآله، يمدح الأنصار، ويوصي بهم خيراً، ولكن الأنصار رغم مقامهم المشهود، إلا أنهم سقطوا في اختبارين أساسيين؛ وهذا ما أدى لوقوع الكارثة فيهم.
-
الاختبار الاول: المال
وكان في حياة رسول الله، صلى الله عليه وآله، هذا الاختبار من أصعب الاختبارات في هذه الحياة، فهو زينة الحياة الدنيا، كما انه فتنة في الوقت نفسه، وفق ما وصفه القرآن الكريم، وفي غزوة حنين المعروفة، حيث كان المسلمون في أوج قوتهم من حيث العدّة والعدد، حتى قال قائلهم: “لن نُغلب بعد اليوم من قلَّةٍ، فعانهم؛ أي أصابهم بالعين وهو الأول”.
ولكن نُصب لهم كمين في وادي حنين، وفاجأهم العدو فولوا هاربين، ولم يصمد منهم إلا بنو هاشم الأكارم مع رسول الله ، صلى الله عليه وآله، وأيمن ابن أم أيمن، ولكن عادوا للكرَّة بعد الفرَّة، وحصلوا على غنائم كثيرة وكبيرة، فقَسَمَها النبي، صلى الله عليه وآله، فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ من قريش، فأَعْطَى أَبَا سُفْيَان، ومعاوية، وَعُيَيْنَةَ، وَالْأَقْرَع بن حابس، وَسُهَيْل بْن عَمْرو وغيرَهم، وهم من كبار كفار قريش، أسلموا قبل الغزوة بأيَّامٍ قليلةٍ فقط، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئاً، فكان الوقع عليهم ثقيلاً، فهم يعدون أنفسهم أحق بالغنائم من حديثي الاسلام، فما السبب في عدم حظوتهم بشيء من الغنائم كما حصل الناس، فقال قائلهم: سُيُوفنَا تَقْطُر مِنْ دِمَائِهِمْ، وَهُمْ يَذْهَبُونَ بِالْمَغْنَمِ؟!
“ولم يتمالك سَعْد بْنُ عُبَادَةَ نفسه، فجاء إلى النبي، صلى الله عليه وآله، لِيُصارحه ويُخبره بما يجول في خواطر الناس، فلما أخبره بذلك، قَالَ لَهُ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْد؟
قَالَ: مَا أَنَا إِلَّا مِنْ قَوْمِي.
فقَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمك.
فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ، صلى الله عليه وآله، فَقَالَ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟
ثم قَالَ لهم: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! ما مقالةٌ بلَغتني عنكم؟ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًاً فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي؟ ألم تكونوا مشركين تائهين ضائعين، فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي؟ وكنتم متفرقين متناحرين يقتلُ بعضُكم بعضاً فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي.
وكُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، أي: المِنَّةُ والفضلُ للهِ ورسولِه.
ثم قال لهم: مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ؟
ثم قَالَ: أَمَا وَاَللَّه لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاك، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاك، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاك، وَعَائِلًا فَوَاسَيْنَاك.
فجعلوا يبكون ويقولون: بَلِ الْمَنّ عَلَيْنَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
ثم قال: أَما تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ برسول اللَّهُ إِلَى رِحَالِكُمْ؟
ثم قال لهم: لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ. وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا. الْأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ.
ثم قال لهم: اللَّهُمَّ اِرْحَمْ الْأَنْصَار وَأَبْنَاء الْأَنْصَار، وَأَبْنَاء أَبْنَاء الْأَنْصَار.
فبَكَوا بكاءً شديداً، حَتَّى أَخْضلّت لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّه قَسْمَاً وَحَظًّاً”.(1)
فالأنصار بايعوا البيعتين، واجتازوا العقبتين، وأعلنوا انتماءهم للدين الحنيف، ثم بايعوا تحت الشجرة، حيث رضي الله عن المؤمنين من المبايعين، ونزلت آية كريمة بحقهم، ففازوا بالنُصرة، وباءت قريش بالغَدرة.
وهكذا صاروا أنصار دين الله، وأحباب رسول الله، صلى الله عليه وآله، حيث فضلهم على عشيرته، واختار بلدهم على بلده، بعد فتح مكة المكرمة، عندما غادر مكة ولم يبق فيها، متخذاً المدينة مقر اقامته حتى ارتحاله الى جوار ربه، ودعا لهم ولأبنائهم بالخير، ولبلدهم بالبركة، فصارت – المدينة- طيبة، بعد أن كانت يثرب، وصارت منوَّرة بعد أن كانت ملبدة مظلمة.
-
الاختبار الثاني: الولاية
وأما الاختبار الآخر فكان أشدّ وأقسى عليهم لأنه غيَّر وجه التاريخ الإسلامي كله، ولو استجابوا للصرخة، و وثبوا مع وصي رسول الله، صلى الله عليه وآله، وابنته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء، عليها السلام، لكان لهم شرف تغيير مسيرة التاريخ مرَّة أخرى، وتصحيح مساره بعد أن حاول رجال قريش الانقلاب على الأعقاب والاستئثار بالسلطة والحكم دون أصحابها الشرعيين، وهم يعلمون ذلك، وقد بايعوا علياً قبل رحيل الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وآله، عن هذه الدنيا في غدير خم، ولما ينسوها بعد.
ولذا – أعتقد – أن سيدة النساء التي عرفتهم أرادت هنا أن تشرفهم فاطمة الزهراء (ع) بمخاطبتهم، واستنصارهم، بل استغاثتها بهم لينصفوها ممَن ظلمها..
فبعد أن رمت بطرفها الحزين ناحية الأنصار، نادتهم بصفتهم فقالت (ع): “يا معشر النقيبة وأعضاد الملّة وحضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي والسِّنةُ عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله، صلى الله عليه وآله، أبي، يقول: “المرء يحفظ في ولده”، سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة، ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول”.
ثم قالت: عليها السلام: “أيْهاً بَنِي قَيْلَةَ! أاُهْضَمُ تُراثَ أبِيَهْ وَأنْتُمْ بِمَرْأى مِنّي وَمَسْمَعٍ، ومُبْتَدأٍ وَمَجْمَعٍ؟! تَلْبَسُكُمُ الدَّعْوَةُ، وتَشْمُلُكُمُ الْخَبْرَةُ، وَأنْتُمْ ذَوُو الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، وَالأَداةِ وَالْقُوَّةِ، وَعِنْدَكُمُ السِّلاحُ وَالْجُنَّةُ؛ تُوافيكُمُ الدَّعْوَةُ فَلا تُجِيبُونَ، وَتَأْتيكُمُ الصَّرْخَةُ فَلا تُغيثُونَ، وَأنْتُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْكِفاحِ، مَعْرُفُونَ بِالْخَيْرِ وَالصَّلاحِ، وَالنُّجَبَةُ الَّتي انْتُجِبَتْ، وَالْخِيَرَةُ الَّتِي اخْتيرَتْ! قاتَلْتُمُ الْعَرَبَ، وَتَحَمَّلْتُمُ الْكَدَّ وَالتَّعَبَ، وَناطَحْتُمُ الاْمَمَ، وَكافَحْتُمً الْبُهَمَ، فَلا نَبْرَحُ أو تَبْرَحُونَ، نَأْمُرُكُمْ فَتَأْتَمِرُونَ حَتَّى دَارَتْ بِنا رَحَى الإْسْلامِ، وَدَرَّ حَلَبُ الأَيّامِ، وَخَضَعَتْ نُعَرَةُ الشِّرْكِ، وَسَكَنَتْ فَوْرَةُ الإْفْكِ، وَخَمَدَتْ نيرانُ الْكُفْرِ، وهَدَأتْ دَعْوَةُ الْهَرْجِ، وَاسْتَوْسَقَ نِظامُ الدِّينِ؛ فَأَنّى جُرْتُمْ بَعْدَ الْبَيانِ، وَأَسْرَرْتُمْ بَعْدَ الإْعْلانِ، وَنَكَصْتُمْ بَعْدَ الإْقْدامِ، وَأشْرَكْتُم ْبَعْدَ الإْيمانِ؟ {ألا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدأوكُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ أتَخْشَوْنهُمْ فَاللهُ أحَقُّ أنْ تَخْشَوْهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.”.
فما أعظم هذه الكلمات من سيدة البلاغة والفصاحة! – روحي فداها– وكم كانت حجتها قوية لو أنصفها القوم! ولكن؛ هي الدنيا وزهرتها والسلطة وبريقها، فقد حليت في أعينهم، وراقهم زخرفها وزبرجها، فاعتدوا على مَنْ “يغضب الله لغضبها ويرضا لرضاها”، فخسروا خسراناً مبيناً.
وفي الحقيقة والواقع لقد ألزمت الصديقة الزهراء، القوم جميعاً الحجة، وخصَّت الأنصار، إذ إنها خصصتهم بعد العموم وخاطبتهم دون غيرهم، فكانت الحجة عليهم ألزم، وذلك بما قام به أمير المؤمنين، عليه السلام، حين اصطحبها معه وراح يدور على بيوت الأنصار ويستصرخهم، ويستغيث بهم على الحزب القرشي الذي أحيا الأحزاب، ولكن هذه المرة بالسياسة دون السيف، ولكن تخاذلوا ولم ينهضوا بحجج واهية وقلوب خاوية بعد أن كانت مفعمة بالإيمان.
وهنا أسأل نفسي وكل مَنْ اطلع على تاريخ تلك الحقبة الحرجة من تاريخ الإسلام، لا بد له من مثل هذا التساؤل: لماذا تقاعس الأنصار عن نصرة أهل البيت في مواجهة قريش الظالمة؟
و سؤال آخر مؤرق أيضاً: لماذا فعل رجال السلطة القرشية من بني أمية في المدينة والأنصار تلك المجزرة والاستباحة الرهيبة المعروفة بـ “واقعة الحرة”.
فلو وقف الأنصار مع أهل البيت، عليهم السلام، يوم استغاثت بهم فاطمة، عليها السلام، واستصرخهم علي، عليه السلام، هل كانت ستحل بهم تلك الكارثة التي يندى لها جبين التاريخ الاسلامي؟
فلو نهض الأنصار لما حُرق بيت فاطمة، ولما ضُربت وكسر ضلعها وأسقط جنينها خلف الباب، ولما تجرأت قريش على سيدها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، ولا جرت معركة الجمل، حيث قُتل فتيانها الأغرار، ولما تجرأ معاوية لحرب صفين، ولما جرت كربلاء أولاً، ولا وقعت “الحرة” ثانياً، ولما أحرقت الكعبة المشرفة ثالثاً، كل ذلك خلال ثلاث سنوات من حكم يزيد، ابن الطلقاء، وعلى الأمة اليوم أن تحصد نتيجة تقاعس الأنصار عن نُصرة فاطمة، عليها السلام.
—————————
-
1- أخرجاها في الصحيحين وكل كتب السيرة والمغازي.