إضاءات تدبریة

هل يمكننا فهم كل شيء؟!

إنه سؤال مثير يحفز مشاعر الفضول والتنافس والاستزادة في عالم يدفعنا يومياً لتلقي الجديد من الاخبار والمعلومات والافكار، و ربما يكون للوهلة الاولى ذا معنى مجازي، فكيف يمكننا معرفة كل شيء، فضلاً عن فهمه واستيعابه وهضمه؟!

بلى؛ القرآن الكريم يمنحنا هذه القدرة اذا فهمناه بالشكل الصحيح.

بداية؛ يبنغي علينا معرفة كيفية فهم الكتاب المجيد لنحصل على مفتاح معرفة وفهم سائر الاشياء في الحياة.

الخطوة الاولى؛ تمييزه عن سائر الكتب المعرفية والدراسية، بأمرين ـ من جملة أمور-:

الأمر الأول: القرآن كتاب لا يحدّه شيء

نحن نقرأ أي كتاب، ونستفيد مما فيه؛ من معارف وعلوم وافكار، نقرأه تارةً للاستزادة في المعرفة والثقافة، وللتعلّم تارةً  اخرى، كما في المدرسة والجامعة، إنما الفارق أن هذه الكتب يحمل كل واحد منها بعداً محدداً من العلوم والمعارف، فهو يحمل عنواناً يدلنا على محتوى الكتاب، كما لو كان العنوان عن الطبيعة، او العلاقات الاجتماعية، أو الاقتصاد، او الطب، أو الهندسة، او القانون، فالطالب في الجامعة الذي يدرس القانون ويتخرج من كلية القانون، فإنه سيعرف في المجتمع بأنه متخصص في القانون، فتكون وجهته المهنية؛ إما الى المحاماة أو الخبير القضائي، او الدوائر المعنية، وهكذا الحال بالنسبة لسائر التخصصات العلمية.

 

القرآن الكريم ليس كتاب قانون ونواهي و زواجر فقط، كما ليس هو كتاب أخلاق فقط، كما انه ليس بكتاب دين فقط. إنما هو {بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}

 

أما القرآن الكريم، فإنه ليس كتاب قانون ونواهي و زواجر فقط، كما ليس هو كتاب أخلاق فقط، كما انه ليس بكتاب دين فقط. إنما هو {بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}، ربما نستوحي من هذه الآية المباركة، أن القرآن يجمع بشكل أساس بين العلم (البيان)، والدين (الهدى)، والاخلاق (الموعظة)، وهو ما يعجز عنه أي كتاب آخر ـ مع التأكيد على أن القرآن ليس كتاباً بالمعنى الذي نفهمه ـ فعندما نفهم القرآن الكريم بشكل صحيح ومتكامل، فنحن فهمنا الدين، كما فهمنا العلم، وايضاً الاخلاق، فليس من الانصاف القول بأننا نقرأ القرآن ونتعلم منه الاحكام الدينية، والعِضات الاخلاقية لتقويم السلوك وتحسين العلاقات الاجتماعية، ثم نذهب بعيداً في الشرق والغرب، ونبذل الاموال الطائلة والجهود الجبارة لتلقّي العلوم من الآخرين.

والامر (المائز) الثاني: “خيركم مَن تعلّم القرآن وعلّمه”

هذا الحديث الشريف ينبغي ان يكون شعارنا ونحن نفتح الكتاب المجيد ونقرأ آياته آناء الليل وأطراف النهار، ويتأكد الأمر اذا كنّا محظوظين بمدارسته وتعلّمه في المدارس والحوزات فذاك فضلٌ عظيم، وفرصة ذهبية في مسيرة الفهم والاستيعاب وتحمل المسؤولية.

نحن نسمع بتخرج المحامي من كلية القانون، او الطبيب من كلية الطب، او المدرس من كلية التربية، ولكن؛ هل نجد المحامين والاطباء والمهندسين والمدرسين في اماكن عملهم جميعاً؟! المهن الحرة، والاسواق، وسيارات الأجرة تفصح بالاجابة عن هذا السؤال، بينما القرآن الكريم يحفّز ويحثّ على تعليمه وتفهيمه بعد مرحلة تعلّمه وتفهُمه، فهو ليس كتاب خاص بعالم الدين، او الخطيب، او طالب الحوزة العلمية وحسب، ومحظور على سائر الناس الحديث او التدبّر في آياته وما فيه من عبر وعِضات وسنن إلهية في الحياة، إنه كتاب من شأنه الانتشار مثل أشعة الشمس، ومثل الغيث المنهمر من السماء لا يدع بقعة على البسيطة إلا ويلامسها شيء من تلك الرحمة الإلهية.

ان غياب هذه الحقيقة، هو الذي تسبب ـ مع جملة اسباب اخرى – في أن يكون القرآن الكريم في مجالس الفاتحة، ويقرأ في المقابر ـ مع التأكيد على فضل وحسن هذا العمل – بل ويكون على الرفوف وعلى الجدران بأشكال زاهية وجميلة للتبرّك!

 

  • الخطوة الثانية: الاعداد النفسي

كما أن الانسان تؤثر فيه الحالة المادية في شخصيته؛ من غرائز واحاسيس تحرك شهوة الطعام والجنس والتملك، فإن العامل الروحي يؤثر فيه ايضاً من خلال النفس التي سوّاها الله ـ تعالى- في داخل كل انسان، ثم ترك له الخيار بين تزكيتها وتدنيسها، فكلما كانت النفس سامية، ونقية، كلما كانت أقدر على صنع الإرادة والنية الصالحة نحو كشف الحقائق والتزود بالمعارف والعلوم القرآنية.

الطالب في المدرسة، او الجامعة يحرص على نظافة مكانه من الاوساخ في قاعة الدرس، كما يحرص على عدم وجود الجراثيم في دورات المياه، وصنابير مياه الشرب، كذلك الحال بالنسبة لمن يقرأ القرآن الكريم ويتدبّر في آياته، فانه يجلس في جامعة لا نظير لها تدعوه لتنزيه نفسه من الغرور، والكِبر، والحسد، والحذر من التصديق بالذات دون الآخرين، “فالعلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء”، يقول رسول الله، صلى الله عليه وآله، فكيف ننتظر من القلب أن يشعّ بنور القرآن ليبصّر صاحبه بالحقائق والمعارف وقد أصاب قلبه الرين والصدأ، و زاغ بصره، وانشغل قلبه بحسابات جانبية مع هذا او ذاك؟ فلاشك ان القلب اذا انشغل بهمّ ما، كأن تكون شهوة معينة، او مشاعر و نوازع نفسية معينة، فانها ستأخذه بعيداً عن طريق القرآن وعن تفهّمه بالشكل الصحيح، لأنه حينها سينشغل بفهم من يزعجه للرد عليه، أو يفكر في الطريقة التي يلبي فيها شهواته ورغباته.

وعندما يتحدث علماؤنا عن مدى استفادة الغرب من القرآن الكريم في ثورتهم العلمية والتقنية وتشييد حضارتهم، فهذا لا يعني أنهم تعلموا صناعة الطائرات وبناء الجسور والانفاق وناطحات السحاب ومحظات توليد الطاقة الكهربائية من القرآن الكريم، إنما أمسكوا بمفاتيح العلوم والمعارف من الآيات الكريمة، فتعلموا المنهج والطريق الى تلكم الاكتشافات والابداعات، الى جانب السنن الإلهية (القوانين) التي يهفو اليها العقل والفطرة. مثل؛ الآية الكريمة: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}، والآية الكريمة: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}، والآية الكريمة :{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى}. الى جانب السنن الالهية في الحكم، وأن الظلم والطغيان والانحراف آيل الى الزوال: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ}، بمعنى أن الحق والخير هو الذي يبقى في الحياة، ولعل ما نجده من لمحات هذه السنن والقوانين الالهية في هذا البلد الغربي او حتى الشرقي، هو الذي يثير إعجاب واستحسان البعض ممن يعيش في البلاد الاسلامية، لاسيما تلك التي يكثر في علماء الدين والحوزات العلمية، ومحافل القرآن الكريم وكل المظاهر الدينية.

 

عندما يتحدث علماؤنا عن مدى استفادة الغرب من القرآن الكريم في ثورتهم العلمية والتقنية وتشييد حضارتهم، فهذا لا يعني أنهم تعلموا صناعة الطائرات وبناء الجسور والانفاق وناطحات السحاب ومحظات توليد الطاقة الكهربائية من القرآن الكريم، إنما أمسكوا بمفاتيح العلوم والمعارف من الآيات الكريمة

 

وطالما أكد العلماء على أن القرآن الكريم كتاب مفهوم من حيث المبدأ، وبوسع كل انسان تفهّم آياته حسب مستوى فهمه واستيعابه هو، وهذا أحد علائم الاعجاز القرآني عندما يقرأ القرآن ويفهمه ويستضيء به شخص مثل أبو ذر الغفاري، او سلمان المحمدي، وأمثالهما ويكونوا عمالقة في العلم والمعرفة والنزاهة والنبل، ثم نجد اليوم شخص في العراق، او في ايران، او في اندونيسيا، او في البرازيل، يقرأ الآيات الكريمة ويستفيد هو الآخر كما استفاد الذين سبقوه باربعة عشر قرناً من الزمن، ولعل قراءتهم في هذا الزمن تكون لها آثار وانعكاسات أكبر وأعظم، لعظم التطورات والمستجدات في الصعد كافة، فهي تصنع رجال، وتغير شعوب، وتعيد الثقة الضائعة بالنفس لدى المسلمين، بل وتكون سلاحاً ماضياً ضد الظلم والطغيان والانحراف، كل هذا وغيره يمكن ان يكون مصداق وصية أمير المؤمنين، عليه السلام، في الساعات الأخيرة من عمره الشريف: “الله الله في القرآن لا يسبقنكم بالعمل به غيركم”.

إن مجرد حديث الانسان مع نفسه بأنه قادر على تفهّم القرآن الكريم، وأن كتابه السماوي وليس كتاباً علمياً معقداً، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}، وعندما يقرأ آياته يستشعر أنه يتحدث معه، هذا بحد ذاته يمثل مفتاح الفهم الحقيقي القرآن، مع العلم أن لا أحد يدعي اليوم ولا أي يوم آخر، بأنه يحيط علماً وفهماً كاملين بالقرآن الكريم، إنما المطلوب أن يكون الكتاب المجيد ضياءً ودليلاً لنا لمعالجة مشاكلنا وأزماتنا، كما كان كذلك للاجيال الماضية، ونرجو ان يكون كذلك للاجيال اللاحقة.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا