كان الحضور المميز للإمام الحسن المجتبى، عليه السلام في كربلاء الحسين، وفق تخطيط دقيق، ورؤية استراتيجية لنزع الشرعية عن الحكم الأموي، وفضح الشخصية الباغية والطاغية؛ معاوية، وإظهاره على حقيقته الجاهلية الفاسدة التي غطَّاها بطبقة من الدِّين المزيف، وهو ما انطلى على أهل الشام البسطاء الذين دخلوا الدِّين الإسلامي على أيدي الجيش الذي كان يقوده معاوية وأخوه زياد، ولما هلك زياد عيَّن الحاكم القرشي الثاني، أخاه معاوية مكانه في ولاية الشام، ليُكمل الخطة القرشية بتمكين بني أمية من السلطة لأنهم عشّاق حكم وسلطان، ولا شأن لهم في الدين وأهله وشعارهم قول أبي سفيان: “والذي يحلف به أبو سفيان لا جنة ولا نار إنما هو الملك، تلاقفوها يا بني أمية تلاقف الصبيان للكرة”، ولهذا قال حفيده الدَّعي يزيد عندما أدخلوا السبايا عليه في الشام: “لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل”.
فالإمام الحسن، عليه السلام، وخلال عشر سنوات من حضوره المبارك، وأخلاقه القرآنية، وشخصيته النبوية المباركة، بحيث أنه كان إذا جلس أمام منزله في المدينة يُغلق الطريق بالناس الذين يقفون لينظروا إلى وجهه الشريف ونوره وسناه النبوي لأنه أشبه الخلق بجده رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا ينفضُّون عنه حتى يقوم ويدخل إلى بيته، هذا الحضور في حياة الأمة، مع عشرات القصص التي تُحكى عنه وحجه خمس وعشرين سنة راجلاً والنجائب يُقاد بين يديه، وكرمه الذي أعجب التاريخ والأمة التي سمَّته (كريم أهل البيت)، كل ذلك جعل الإمام الحسن، عليه السلام يُمهِّد الأرضية للنهضة الحسينية المباركة، التي أسست لكل الثورات الاجتماعية التي أدَّت إلى إسقاط الحكم الأموية وقذفه إلى مزابل التاريخ في أقل من قرن من الزمن، وهذا ما كان ليحدث لولا الهدنة التي حقنت دماء الأمة ومنع معاوية من تمزيقها وصناعة دين معاكس للدِّين الإسلامي الحق.
والله لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً، فوالله لأن أسالمه وأنا عزيز، خير من أن يقتلني وأنا أسيرهُ، أو يمنّ عليّ فتكون منّة على بني هاشم إلى آخر الدهر، ومعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه على الحي منّا والميت
-
صلح الإمام الحسن هدنة
وقالوا كذباً وزوراً: أن الإمام الحسن عليه السلام تنازل عن السلطة لمعاوية، إما لضعفه عنها، أو لجدارة معاوية بن هند فيها، ولكن كلاهما خطأ فاحش، وميل فاضح عن الحق الذي بيَّنه الإمام الحسن، في عدد من المواقف، والخطب، وأظهره في بيت ومجلس معاوية وبين أهل بيته وملئه.
فالإمام الحسن هادن، السلطة الأموية لرؤيته بعدم مواتية الظروف للحرب والمقاومة المسلحة فكانت الهدنة فتحاً مبيناً، كما كان صلح الحديبة لجده رسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا ما بيَّنه عندما سأله أبو سعيد عقيصاً، قال: قلتُ للحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، يا ابن رسول الله لِمَ داهنتَ معاوية وصالحته وقد علمتَ أن الحق لك دونه وأن معاوية ضال باغ؟
فقال: “يا أبا سعيد أ لستُ حجة الله تعالى ذكره على خلقه وإماماً عليهم بعد أبي؟
قلتُ: بلى.
قال: أ لست الذي قال رسول الله لي ولأخي، الحسن والحسين (إمامان قاما أو قعدا)؟
قلت: بلى.
قال: فأنا إذن إمام لو قمتُ وأنا إمام إذا قعدتُ، يا أبا سعيد علَّة مصالحتي لمعاوية هي علَّة مصالحة رسول الله لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية أولئك كفّار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل.. يا أبا سعيد إذا كنتُ إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجبْ أن يُسفَّه رأيي فيما أتيته من مهادنة، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً ألا ترى الخضر، لما خرق السفينة، وقتل الغلام، وأقام الجدار، سخط موسى فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرَضِيَ؛ هكذا أنا سخطتم عليَّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قُتل“. (علل الشرائع: الصدوق: ج1، ص 211).
إن صلح الإمام الحسن لم يكن إلا مرحلة من مراحل جهاد الإمام الحسن السبط المجتبى سلام الله عليه فأولاد الإمام الحسن وأحفاده وسلالته كانوا هم حملة راية الجهاد في سبيل الله ضد طغاة العصر، ولا يكون ذلك إلا بتأثير مباشر من هدى الإمام الحسن السبط ومن تعاليمه
وفي كلمة أخرى له عليه السلام، يقول: “والله لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً، فوالله لأن أسالمه وأنا عزيز، خير من أن يقتلني وأنا أسيرهُ، أو يمنّ عليّ فتكون منّة على بني هاشم إلى آخر الدهر، ومعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه على الحي منّا والميت“. (الاحتجاج للطبرسي: ج2، ص10).
-
حضور الإمام المجتبى في كربلاء
فالمتأمل في حوادث الصلح يجده هو الذي هيَّأ الأرضية للنهضة والثورة الحسينية المباركة، هذا من الجانب الفكري، والسياسي، والاجتماعي، وأما من الجانب العسكري فإن حضور الإمام المجتبى لا يقل عن حضور صنوه سيد الشهداء عليه السلام فيها، وإن لم يحضرها شخصياً إلا أنه حضرها بكل ثقله المادي والمعنوي، وهذه المسألة لفتَ إليها سماحة السيد المرجع السيد المدرسي (حفظه الله) في كتابه (أنجال الإمام الحسن في كربلاء)، حيثُ بيَّن ودرس الحضور الحقيقي بأبنائه الذين ضحُّوا بأنفسهم وهم فتية بين يدي عمِّهم، ثم الحضور الاعتباري فيما بعد بالثورات العلوية الحسنية التي قامت على امتداد الساحة الإسلامية من أقصى المغرب حيث الأدارسة، إلى أقصى المشرق، ولسماحته نظرية يقول فيها: “إن الجناح الحسني يُمثل الجناح الثوري، والجناح الحسيني يمثل الجناح العلمي والفكري في الإسلام”.
ويقول سماحة السيد المدرسي: “إن صلح الإمام الحسن لم يكن إلا مرحلة من مراحل جهاد الإمام الحسن السبط المجتبى سلام الله عليه فأولاد الإمام الحسن وأحفاده وسلالته كانوا هم حملة راية الجهاد في سبيل الله ضد طغاة العصر، ولا يكون ذلك إلا بتأثير مباشر من هدى الإمام الحسن السبط ومن تعاليمه، كما من روحه الوثابة التي انسابت في سلالته”. (أنجال الإمام الحسن: ص25).
وبتفصيل ذلك يقول سماحته: ” اختلف المؤرخون في عدد أولاد الامام الحسن عليه السلام، ذكوراً واناثاً فمنهم مَنْ قال: إن الامام المجتبى استشهد عن ثمانية ذكور وأربع إناث، بينما قال آخرون: بأنه ترك أحد عشر ذكوراً وخمسة إناث، وقال آخرون غير ذلك.. إلّا أن الذين اشتركوا منهم في ملحمة كربلاء كان- حسب ما يبدو- خمس من الذكور، وهم الحسن المثنى، والقاسم ابن الحسن، وأبو بكر ابن الحسن، وعبد الله ابن الحسن، ومن الأسرى من أولاد الحسن سلام الله عليه.
في الحقيقة لم يكن الإمام المجتبى غائباً عن نُصرة شقيقه الإمام الحسين، فكيف يغيب وهو الذي لم يستطع أن يراه يبكي في آخر لحظات عمره الشريفة، وقال له: “لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدعون أنهم من أمة جدنا محمد صلى الله عليه وآله وينتحلون دين الاسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك، فعندها تحلُّ ببني أمية اللعنة، وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كل شيء حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار”. (بحار الأنوار: ج ٤٥ص ٢١٨).
فللإمام الحسن عليه السلام حضور في كربلاء بأبنائه، وزوجته، وعياله، وقدَّم ثلاثة من الشهداء واثنين من الأسرى وكانوا جرحى في أسوء حالاتهم، كما أن زوجته وبناته كانت مع السيدة زينب عليها السلام وبقية بنات رسول الله، وقد أهملهم التاريخ والمؤرخون ليتهموا الإمام الحسن.
فالسلام على نصير أخاه الحسين حيَّاً وشهيداً.