نحن ما ضيعنا الإمام الحسين، عليه السلام، حتى نفتش عنه ـ لقد عرفنا منذ الوهلة الاولى أنه دائماً في المسجد، حيث الرسالة التي هي صوت جّدِّه، صلى الله عليه وآله، وضمير القضية في وحدة الأمة ـ ولكننا نفتش عن الأزاميل التي نحتته وصاغت منمه بطلاً ما نسجت مثله أنوال الملاحم.
منذ الطفولة وأحضان منسولة من الحلم، والرمز، وضمير القصد تدغدغ الإمام الحسين، عليه السلام، وتتدغدغ به، كأنه حضن الحلم، والرمز، والقصد، لدغة أخرى تهجع في ضميرها ديمومة تتلقط بها إمامة، ما كان الحسين الطفل الصغير إلا ويشعر بها وهو يحتويها، وما كان ينمو ويتنامى إلا بها ـ أكان في حضن أمه، عليها السلام، ـ أم كان في حضن أبيه، عليه السلام، الذي يشيع عليه مهابة لا تتسربل بمثلها إلا مداميك القلاع أو أبراج الحصون ـ أما جده، صلى الله عليه وآله، المتمنطق بآيات الجلال، فإنه كان يمرح فوق منكبيه وهو يشعر كأن النجوم تتساقط من أبراجها الى عبّه، وما أن ينزل عن المنكبين الى الارض حتى يركض كالولهان الى حضن أخيه الإمام الحسن، عليه السلام، ليفرغ من عبِّه الى عبِّه الآخر، كل ما جناه من سلال جده الملئية بالعطف، والرغد، والزهد المجمَّع عن شاطئ الكوثر.
من يوم الى يوم يعقد الزهر في روض الإمام الحسين عليه السلام ويثمر، ومن عهد الى عهد كانت تتجلى أمام عينيه ملامح الرؤى، وما تتغلف به الضمائر، وكانت الأحداث تتفتح عن مكامنها ومقصادها بين يديه، وهو يجلوها بما هو موهوب به من عقل هو ذخيرة ربه في أنقى عباده.
وإن كنَّا نؤمن بالعقل السليم طاقة تحقق الفهم والإدراك، ولكن للجو الحميم الذي ولد فيه الإمام الحسين، عليه السلام، وأنه لمن المثير أن نلمح الى شيء من هذه التأثيرات المبثوثة في الجو الذي نشأ فيه الإمام الحسين عليه السلام، وكيف كان لها فعل ايحائي ترهَّف به عقله، وحسه، وتكوينه النفسي، وكيف انطبعت به نزعاته، وميوله، في النهج والتغيير.
من المشهور والمشهود له، أن لطفولة الإمام الحسين عليه السلام، تعهدا مهتما ومنفردا عن المثيل، ولقد اشترك في مثل هذا التعهد الممتاز: الجد، والأب، والأم، في إخراج موحَّد لا يشير إلا الى وحد القصد الذي يجتمع عليه الثلاثة، فكان واحداً في اللون، وواحداً في النوع، وواحداً في التوجيه، وواحداً في لمِّ الأخوين الى مشترك واحد دون أي فرق أو تمييز، كأنهما واحد في التنشئة والتربية، وكان الواحد منهما هو المكمل للآخر، ليكونا حبكة واحدة في فتيلة السراج، لقد كان الحسن والحسين ـ فعلاًـ شخصين بمزاجين، ولكنهما كانا في وحدة فكريّة ـ روحية رائعة الانداماج، جمعتهما الى القصد الواحد، ليكونا إخراجا واحدا لذلك القصد الأكبر الذي جال في باب النبي، صلى الله عليه وآله، وهو يزف الى إنسان الجزيرة رسالة تجمعه من تيهه المشرد الى مجتمعه الموحَّد.
تم تأليف الأمة وتوحيدها، بعد بذل العرق والدم، وتم الانتصار على كل ما يعرقل سير القافلة الكبيرة على دروب الحياة، وتم القضاء على كل تشويش كانت تتعنتر به القبيلة، وتشق الامة وتبعثرها الى ألف ـ وجاء التدبير الأوحد والأحكم زمام التحكم والتعهد على رجل واحد مُرِّسَ بالإيمان، والفكر، والتوجيه، والعزم، والإرادة ـ إن هذا الرجل هو الذي يمثل الخلافة المصقولة بالإمامة، وهو الذي يمنع ـ وحده ـ رجوعا الى زعامات تقليدية يدعمها ـ من هنا وهناك ـ عدد لا يحصى من القبائل، وهو الذي يمثَّل رسالة ما نجح غيرها في المجتمع، وهو الذي ينقذ ضلعاً أميناً من الرسالة، وشفرة كريمة من معدنها الأصيل، وحارساً أميناً لعهودها المرتبطة والحق.
لقد تم تعيين البيت الذي يحضن الرسالة المنبثقة من قلب الجوهر ـ أما النبي العظيم، صلى الله عليه وسلم، وابنته التي كأنها جبلت خصيصا بطبيعتها الأنيقة ونفسها الكريمة، وابن العم الذي ذابت كل أجيال الجزيرة حتى أفردته فريداَ في الصدق، والعقل والعزم، والبطولة ـ هم الآن الفاهمون القصد، والمجتمعون على تنفيذه، لأنه هو وحده المستجيب لحقيقة الرسالة التي كانت ترجمة صادقة لمجتمع تحقق والتمّ ـ وتم أيضا ملء البيت بالفتيلتين المؤلفتين سلك النور الذي سيستضيء به خط الرسالة ( الإمامة) فلتكن لنا مرافقة الإمام الحسين، عليه السلام، حتى تستقيم معه متابعة الدراسة فهو صاحبنا الآن في الرفقة الكريمة.
أقول: ثلاثة هم الراسمون القصد، وهم وحدهم الفاهمون، وهم الذي يخرجونه، بالمبنى، وبالمعنى، وبوضوح النهج ـ أما الحسين الطفل، فهل كان له أن يعرف أنه هو القصد المضمر، وأنه هو الذات المستترة في الباب وخلف البال، وفي الحلم، وفي الأبعد منه، وفي البيت، وفي الأرفع والأفسح من سقفه؟ ولكن؛ من يقول أن ليس للطفولة إدراك مخبَّأ في الحس، والشعور وطوية الذات، وهو الذي يتغذى من كل ما يحتك به، لينطلق معبراً عنه؟
ونقول: لا معنى للإمام الحسين عليه السلام، لا في الوصف ولا في التحديد، من دون أن نربطه ربطاً محكما بجده وأبيه وأمه، صلوات الله عليهم، ذلك هو الجو الذي ربي فيه، وتلك هي الوحدة التي كانت لحمة إطاره ـ فإذا كان لنا أن نتبيَّنه ـ في بُعد، فستنجده تعبيرا متباهيا أبدا بجدوده الأوفياء للحق، والذين خرج من صلبهم رجل راح يسميه دائما (جدَّه) وهو الرجل العظيم المتوشح بالنبوة، وهو الذي ما حبلت امرأة من نساء الجزيرة بأعقل منه، وأكبر منه، وأورع منه ـ فهو الجزيرة، وهو الرسالة والقضيَّة، في سبيل مجتمع الجزيرة، وهو الأمة التي تعتصب به، وبنوره تمشي دروبها ـ إن هذا الرجل هو جده الرسول، صلى الله عليه وآله، وأبو أمه الأجمل، والأحلى، والأطهر ـ وابن عم أبيه الأمتن والأصدق، والأنبل.
إن المختصر الوحيد ـ لهؤلاء الثلاثة الذي هم في وجود الإمام الحسين، عليه السلام، كل الحسين ـ هو في الرسالة ـ وإن القصد الوحيد من تنشئة الحسين تنشئة مغمورة بهذا اللون من الحب والعطف والرعاية، هو من أجل إمداده بالحس والشعور الأمتنين والصادقين، من أجل القيام على الرسالة ـ وإن الرسالة بمطلقها الأساسي والجوهري، هي من أجل هذه الأمة التي هي المستودع الاوحد لهذه الرسالة التي هي ـ بحقيقتها الواسعة ـ هذا الإنسان تبنيه القيمة، وإنه ـ هو الحسين ـ تجسَّد لهذه القيمة، زرعتها الرسالة فيه، ليكون أول من يمتثل الى تعهدها، والسهر عليها، وهي التي تستدرج الأمة ـ بها ـ وجودها النامي بالحق، والصدق، وعفة الوجدان.
كل هذا كان بالإحاطة حول تنشئة الإمام الحسين، عليه السلام، وما كان الحسين إلا ليعيها ـ وهو طفل ـ ولتتجسد وتُفخمَ فيه وهو ينمو وينهد الى الشباب والرجولة، ولتصبح ـ بكل ما فيها من مقصد ومعنى ـ محفورة في نفسه، وعقله، وشعوره. لقد فهم مليا ـ مع تقدمه بالفهم والإدراك ـ إن تنشأته كانت بهذا الشكل، والنوع واللون، لأنه مزروع للقضية ـ للرسالة التي هي القصية ـ للأمة التي هي أُسس الرسالة ـ وللإنسان الذي هو كل القضية.
يصح القول: إن لكل تربية أثراً ما في مجتمعات الإنسان تعكس ـ الى حد بعيد ـ بنية ذلك المجتمع، ومقدار ما حصل عليه من الوعي والرشد، ليكون التوجيه التربوي الهادف تلبية للحاجة الملحة الى التطوير، ورفع المجتمع من سويَة الى سوية، وكانت تنشئة الإمام الحسين، عليه السلام، بهذا النوع الوجيه الهادف ـ وكان مبالغا في تعهدها وإظهارها للعيان، لثلاثة أسباب وجيهة:
ـ السبب الأول: وهو شعور المربي المتعهد الضمني ذاته، بأن المقصد الكبير تلزمه العناية الكبيرةـ بحيث لايجوز أن تكون حياكة قميصه إلا على النول الأميز.
ـ السبب الثاني: هو في التدليل البارز في نوعية التنشئة حتى يشعر فتاها بأنه هو الشمار إليه، وما ذلك إلا حتى يشعر هو بأن حمله سيكون جليلاً، وأنه المنتدب المميز للمسؤولية المميزة، وحتى يشعر بأن هذا الجلال الي يُختمُ به إنما هو ظل لذاك الجلال توشحه به الأمة حتى تكبر في ساحات التباهل.
ـ السبب الثالث: هو في الظهور الأبرز أمام الرأي العام، بأن المدلول إليه بالتنشئة المختصة والمميزة، إنمت هو ـ بالتخصيص والتعيين ـ ممثل القدر الكبير الذي طابت على يديه الرسالة، وأنه هو الوحيد الذي جمع الأمة، وأنه هو الرائي البصير في كفيية تعهدها حتى لا يطالها، لا تعثر، ولا وهن، ولا ردّة تهدر الجهد أو تخفف من مزاياه.
تلك هي الأزاميل التي عمَّقت حفرها في تكوين بنية الإمام الحسين عليه السلام، الروحية والعقلية على السواء ـ أما أن يصطدم ـ كم رأينا من واقع الأحداث بعد غياب جده، صلى الله عليه وآله، عن الأرض ـ بما راح ينقض الوصاية في التعيين، ويشل قوى البيت المبني للإنطلاق الموجه والمدروس ـ فإن ذلك ما جعله واقفا مذعورا من مغبة العصيان ـ عصيان جده في أعز أمانيه وتصاميمه، وفي أفخم توصياته قبل أن يترك الأرض ـ إلا أن إيمانه بأبيه ـ بأنه سيتمكن من إعادة الأمور الى نصابها ـ جعله في مكامن التربص والانتظار ـ ولكن مجريات الأمور والأحداث، ساقت إليه الخيبة تلو الخيبة، والهزيمة تلو الهزيمة، وهذه كلها كانت أزاميل جديدة عمقت حفرها في ذهنه، وأكسبته قوَّة في مكامن النفس لا تعترف مطلقا ـ لا بخيبة ولا بهزيمة.
إن العقل وحده عن الإمام الحسين، عليه السلام، هو الذي اكتشف الحقيقة التي تتغلف بهذه القضايا الكبيرة في الوجود ـ ولقد اكتشف أن الحق هو الذي يبني القضية وأن القضية التي هي الحق، لا يكون عمرها بالساعات، بل إنها الأبقى من الدهر … لقد سمع أباه يقول: “للباطل ساعة ولكن الحق فإلى قيام الساعة ..”، وما كان قد انجلى لما سمع أباه هكذا ينطق ـ إلا أنه الآن ـ بعد أن شاهد أباه يختم شفتيه بالصمت بالفصيح، وبعد أن غاب أخوه بجرعة سم! وجد نفسه أمام حقيقة الإدراك بأنه منتدب لتعهد الحق، وسيقوم بحقيقة التعهد ـ فأما يكون له الظهور، وأما يكون له بروز العنفوان الذي يبني الإنسان ـ لا للذل ـ بل للحياة .. أما الأمة اليت هي من بنية جده، صلى الله عليه وآله، فهي التي بتقى أبداً تنظر إليه ـ ولو بعد ألف حين ـ بأنه العنفوان الذي: إذ ما تفتش عنه الأمة تجده في حقيقة ذاتها ـ وذلك هو جوهر الإنسان الذي بذل له جده وأبوه، صلوات الله عليهما، عرق العمر!!
هل يمكننا الآن أن نقول: إنه هنا الحسين؟
———————————–
-
مقتبس من كتاب – الإمام الحسين في حلة البرفير- لسليمان كتاني