حدیث الناس

نحن مع الشعائر الحسينية ولكن!

في السنوات القلائل من حياتي التي واكبت عهد حزب البعث في العراق في نهاية السبعينات من القرن الماضي وقبل ان أقتطع من وطني وأرمى في أرض المهجر، لم اسمع يوماً أن النظام الحاكم آنذاك تحدث خلال أيام عاشوراء والاربعين، عن المشاكل الصحية بسبب تزاحم الزائرين في كربلاء المقدسة، أو روّج لانتشار امراض في الجهاز الهضمي، او فايروس ما، في تلك الظروف وفي تلك المدينة التي لا تقاس بما هي عليه اليوم بأي شكل من الاشكال، و الكبار في السن ممن يتذكرون تلك الايام يفهمون ما أقول، وكيف كان الزائرون يملؤون الشوارع والازقة الضيقة داخل المدينة، وحتى عند أعتاب البيوت، متخذين منها مكان إقامة لهم، يوم أو يومين او اكثر بهدف زيارة الامام الحسين، والمشاركة في الشعائر الحسينية، وفي الوقت الذي كانت مؤسسات الدولة آنذاك تحرص كل الحرص على الظهور بأفضل صورة في الداخل والخارج فيما يتعلق بالخدمات والنظام الادراي، فقد كانت المدينة المقدسة تفتقر الى دورات المياه الصحية العامة، والى الأواني البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد للطعام والشراب الذي تقدمه المواكب الخدمية للزائرين، والقائمة تطول.

نعم؛ أخطر ما كان يخشاه نظام الحكم من الشعائر الحسينية والنهضة الحسينية أن تتحول الى مرآة يعكس الواقع الذي يعيشه الشعب العراقي، وهو ما كانت تعمل عليه بجدّ واجتهاد التنظيمات الاسلامية العاملة آنذاك وتثقف الناس على أن معركة الطف لم ولن تنتهي، ففي كل عصر يزيد، ومن كل أمة ناهضة يمكن أن يخرج حسين، وهذا تحديداً ما يسلب الراحة والاستقرار من أركان حكم البعث في بغداد، فقد كان الخطر الأكبر منذ بداياتهم، وبقي كذلك، ثم كان فيه نهايتهم المدوية.  

[.. الروح الايجابية والتفاؤل، أكثر ما تحتاجه الشعائر الحسينية بمختلف اشكالها في كربلاء المقدسة، وفي جميع انحاء العراق ..]

أما اليوم فان النظام الحالي في العراق يفترض أنه متسامح مع الشعائر الحسينية وعموم الممارسات العبادية العامة في المدن المقدسة، والاقرار بأنها ثقافة اجتماعية عامة، ولو ضمن اطار المفاهيم الديمقراطية، وطالما نسمع عبارات الثناء والحثّ على إقامة الشعائر الحسينية، ولكن! مع الالتزام بالاجراءات المرورية؛ هذا كان في بدايات “النظام الديمقراطي” عام 2004، ثم الاجراءات الأمنية في وقت لاحق، وهي اجراءات ضرورية لابد منها، بيد ان المثير في الأمر ما تفوّه به أحد قادة الشرطة في كربلاء في تلك الايام الاولى عندما سألوه عن سبب قطع الطرق أمام الزائرين من مسافات بعيدة جداً لا تسبب زحاماً، فيما تسبب الارهاق لكبار السن، فكان جوابه: “إن الزائرين يرغبون بقطع المسافات البعيدة مشياً على الاقدام”! بمعنى من يريد زيارة الامام الحسين، عليه أن لا يدفع الثمن.

وفي الآونة الاخيرة بدأ الحديث عن الاجراءات الصحية، وهي ايضاً ضرورية ومطلوبة للزائرين بأعداد مليونية، فالجميع يؤكد عبر وسائل الاعلام، والتواصل الاجتماعي أنه يتبنى مراسيم الزيارة، وحتى الشعائر الحسينية ولكن! مع ضرورة الالتزام بالتباعد الاجتماعي –هذه المرة- أي لا يقترب شخصٌ الى آخر مسافة تقل عن متر على الاقل لتفادي العدوى وتصاعد اعداد المصابين بهذا الوباء الغريب.

هذا هو منطق الحكومة المتساوق مع منطق المؤسسات الصحية العالمية، فهي غير معنية بالاساس بإقامة هذه المراسيم، ولن يعنيها شيء في عدم إقامتها، ولكن؛ ماذا عمن يعتقد جزماً بالآثار التكوينية لهذه الشعائر في بناء الشخصية، وأن استذكار قضية الامام الحسين لها المدخلية الواسعة في تغيير النفوس، وإصلاح الفساد، ومن ثمّ تغيير مصير شعب وأمة نحو الأحسن؟

[.. إن ممـــا لا يــــرضاه الامـــام الحسين، عليه السلام، الخنوع والاستسلام لمن يكيد بالأمة بأي شكل من الاشكال، ساعياً الى التأثير على عقائدهم، وأخلاقهم، لتغيير نمط حياتهم وتفكيرهم ..]

في الساعات الاخيرة قبل دخولنا اليوم الاول من شهر محرم الحرام لسنة 1442، قلمّا نسمع في وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي، ومن المعنيين عما يعبر عن الروح الايجابية إزاء إقامة الشعائر في ظل كورونا، مع الاستمرار غير المبرر في نشر حالة الخوف والهلع في نفوس الناس من العدوى، وثمة فارقٌ كبير بين التحذير والتخويف، فالتحذير يعد نصيحة تهدى لمن يحتاجها ليتفادى الوقوع في مشكلة او كارثة واضحة المعالم، كأن يكون التحقق والتأكد من التمديدات الكهربائية، او حُسن استخدام المحروقات في هكذا مناسبات، بينما التخويف هو دعوة الناس “لاحتمال” العدوى و الموت! مما يضع الناس وسط نفق طويل ومظلم، ولعل هذا ما جعل الغالبية العظمى من الناس تتخلى عن الكمامات والاجراءات الوقائية في الاسواق والاماكن العامة، بعد يأسهم من البدائل التي تجمع بين استمرار حياتهم الطبيعية –ولو بنسبة معينة- وبين الالتزام بالاجراءات الصحية، وقد عكفت الدوائر الحكومية والمستشفيات على تطبيق الاجراءات الصحية مثل توزيع الكمامات على المراجعين، بينما بقيت الاسواق والاماكن العامة الاخرى من دون رعاية وتثقيف، هذا فضلاً عن فقدان برامج التغذية اللازمة لتقوية جهاز المناعة.

الروح الايجابية والتفاؤل، أكثر ما تحتاجه الشعائر الحسينية بمختلف اشكالها في كربلاء المقدسة، وفي جميع انحاء العراق، مع علمنا بحجم الضغوط والاستفزازات التي تواجه شيعة أهل البيت في بلاد مختلفة من العالم هذه الايام بذريعة جائحة كورونا. فمن الجدير التفكير بإنجاح المراسيم بكامل تفاصيلها، من خلال ابتكار طرق لأدائها بما يقلل خطر العدوى، وتعزيز الثقة بالنفس وروح التحدي في النفوس بما ينعكس بشكل مباشر على جهاز المناعة الرادع للفايروس، وقد أجمع علماء الطب على نقطة ولم يختلفوا عليها مطلقاً منذ الأشهر الماضية، بأن ارتفاع مستوى الخوف والهلع في النفس يؤدي الى هبوط حاد في مستوى كفاءة جهاز المناعة في الجسم بنسبة سبعين بالمئة.

إن مراسيم إحياء قضية الامام الحسين، وواقعة الطف لايمكن مقارنتها بأي مراسيم جماهيرية أخرى في العالم مطلقاً، فالقضية لها أبعاد معنوية واسعة، كما لها ابعاد مادية وتكوينية في حياة الانسان، الامر الذي يفرض علينا التفكير بما يريده منّا الامام الحسين، لا ما تريده منّا اطراف خارجية مهما كانت، او نهدر الوقت في سجالات ونقاشات عقيمة على مواقع التواصل الاجتماعي تتخذ من هذا الموضوع منطلقاً للمكابرة وتحقيق الذات، حتى ذهب البعض ليكون ناطقاً عن الامام الحسين، بأن “لا يقبل –عليه السلام- بانتشار الفايروس بين الزائرين”! كما لو أن الامام أخبره بذلك، بينما واجه الزائرون طيلة قرون من الزمن اشكال المخاطر والتحديات ولم يقل أحد يوماً أن ركوب هذه المخاطر مما لا يرضاه الامام الحسين.  

إن مما لا يرضاه الامام الحسين، عليه السلام، الخنوع والاستسلام لمن يكيد بالأمة بأي شكل من الاشكال، ساعياً الى التأثير على عقائدهم، وأخلاقهم، لتغيير نمط حياتهم وتفكيرهم، بل التقدم بكل ثبات وثقة نحو تحقيق الاهداف السامية، والشعائر الحسينية ليست اثني عشر شهراً، إنما هي بمنزلة المدرسة التي يدخلها الطالب لفترة من الزمن، يتعلم منها العلوم والمعارف، فهي تعلمه اليوم –كما علمت الشعوب من قبل- كيف يتحدى الغزو الثقافي والفكري، وفي مرحلة متقدمة؛ يكون هو المؤثر على الآخرين، كما نجح في ذلك شيعة أهل البيت في بعض بلاد العالم.

فاذا كان المجلس الحسيني في حسينية او جامع يكتض بالحاضرين في الاوقات السابقة، فمن الممكن ايجاد فواصل بين الجالسين، وإن اقتضى الأمر جلوس المشاركين في خارج الحسينية، وفي الشوارع القريبة، بما يبين للعالم الحرص على هذه الشعائر، وايضاً التفهّم للظروف الطارئة. ونفس الأمر ينطبق على عزاء طويريج –مثلاً- وهو من أكثر الشعائر المهددة بالإلغاء او التحديد، وما تزال الاوساط الشعبية في حيرة من أمرها إزاء هذه الشعيرة ذات الجذور في النفوس والوجدان، فبدلاً من أن ينطلق العزاء من شارع واحد تتجمهر فيها الناس، بالامكان توزيع العزاء من الاحياء القريبة من كربلاء لتكون عملية الركض المعروفة مقسمة على أجزاء تحقق التباعد الاجتماعي بشكل او بآخر، ويكون مقصد الجميع مرقد الامام الحسين، وفي نفس الوقت ترسم لوحة رائعة واستثنائية هذا العام لمدى حب وإيمان الناس بالإمام الحسين بما يدفعهم للابداع في إقامة المراسيم رغم التحديات.

إنه الاختبار العسير والكبير لكل محب ومؤمن بقضية الامام الحسين لاسيما لمن يقف ويخاطب أصحاب الامام الحسين بهذا اللفظ: “يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً”، وهذه المراسيم ستبدأ الاسبوع القادم، ثم تأتي بعدها مراسيم زيارة الاربعين، وهي الأقوى والأشد في ميدان التحدي أمام جائحة كورونا، ثم ينتهي كل شيء، بعدها يبدأ احتساب النتائج حيث الموقف الأصعب على الجميع.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

1 تعليق

اترك تعليقا