ولك أن تسأل: كيف تُولدُ الحضارةُ، وكيف تنمو، وتكبر حتى تطبق سمعتها الآفاق؟ فلو نتوجَّه بهذا السؤال لسماحة السيد هادي المدرسي صاحب الباع الطويل في مثل هذه القضايا الحيوية والحضارية، لقال لنا في كتابه (أصول الحضارة): أن هناك شكلين من أشكال الولادة الحضارية هما:
1– أن تولد الحضارة مثلما تولد الشَّرارة في الظلام، نتيجة إرادة عليا مثل الحضارة الإسلامية التي جاءت بفعل الوحي وقيادة الرسول، صلى الله عليه وآله وتفاعل الأمة.
2– أن تأتي الحضارة نتيجة التفاعلات الحضارية المتبادلة، كالحضارة الغربية التي عاشت على تراث المسلمين، وحضارة اليابان والصين الناهضة وهكذا.
ولكن يرفض سماحته في كتابه قطعياً نظرية (صدام الحضارات) وصراعها الذي تسوِّق له الصهيونية والماسونية العالمية بل (نؤمن بتفاعل الحضارات وتكاملها)، فنظرته نابعة من فكر تَسالمي قِيَمي، لا تَصَادُميٍّ جاهلي، كتلك النظريات التي سوَّقها اليهود في مطلع القرن الحالي الجاهلي في حضارته المادية المقيتة.
فإذن لدينا نوعين من الحضارات، حضارة تأتي من السماء قيادة ومنهجاً، رسولاً وكتاباً، وحضارة أخرى أرضية ولكن تقوم على فكرة يعتنقها قائد -عادةً يكون استثنائي وعبقري- ثم يسعى جهده لرواجها فيمَنْ حوله، فإذا اقتنعوا به وبفكرته وحملوها وسعوا في تطبيقها على أرض الواقع عند ذلك يُمكن لهذا القائد، وتلك الفكرة أن تبني حضارة إذا توفَّرت لها الشروط الملائمة الأخرى.
ولذا ترى أوَّلُ فكرة تطرحها سورة العنكبوت المباركة هي (الإيمان المطلق بالله) تلك هي الفكرة الحضارية التي تتمحور حول التوحيد والوحدانية، وتتبلور في الواقع كوحدة لأمة آمنت بالتوحيد؛ فكرة وعقيدة، وسعت لترسيخ هذه العقيدة في واقع الحياة، وذلك برفض كل أنواع الشرك، ومحاربة كل معبود من غير الله الواحد الأحد الفرد الصمد.
-
تطبيق الفكرة الحضارية
إذا كانت الفكرة الحضارية الكونية في هذه الحياة هي (الإيمان المطلق والتوحيد) فكيف السبيل لتطبيقها في الحياة؟ هنا تكمن المعضلة فهل قدَّمت لنا السورة المباركة حلاً، أو فتحت لنا نافذة نطلُّ من خلالها على خزائنها النورانية؟
نعم؛ وهل القرآن الحكيم بكل عظمته، وجلاله، وجماله، وكماله نزل إلا لهذه المهمَّة الراقية في هذه الدنيا؛ ألا وهي هداية الإنسان وتربيته تربية تجعله لائقاً للعودة إلى جوار الرَّب وجنَّة القرب؟
فالقرآن الحكيم هو كتاب هداية وتربية قبل أي مهمة أخرى له، فليس هو كتاب نظريات علمية، رغم وجود إشارات علمية تتحدى العلماء عبر العصور والدهور، ولكنه نزل على رسول الله، صلى الله عليه وآله، بعد أن صنعه الباري على عينه، وأدَّبه بأدبه، فكان خُلقه القرآن، وبوصفه تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. (سورة القلم: 4).
وأما في سورة العنكبوت فإنها بعد وضع الأساس الحضاري للمجتمع البشري على مستوى الأفراد والمجتمعات، وهي مبنية على أساس (الفتنة) والاختبار والامتحان، وذلك كله ما يدفع الإنسان للعمل والجد والنشاط في مسيرته، تأتي الآيات الكريمة لتضع الأساس القِيَمي للبناء الحضاري وهو بقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}. (العنكبوت: 7).
[.. الحضارة السماوية التي يُريدها الخالق تعالى من عباده أن يبنوها في هذه الدنيا، يجب أن تبدأ من منهج السماء، الذي يُبنى على فكرة الإيمان، والتوحيد، والطاعة والانقياد المطلق للقائد (الرسول أو الولي)، والمعاد إلى الله ..]
والملاحظ في الآيات الكريمة أنها ابتدأت من نهاية الدنيا لأنها في الحقيقة هي بداية الحياة الحقيقية في الآخرة ولا تكون إلا بعد الموت، “فالناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا” بقول أمير المؤمنين عليه السلام، واللقاء بالله تعالى في دار كرامته، على أيِّ أساس يكون، وعلى أيِّ صفةٍ مرضيَّة لك أنتَ، لتكون فائزاً، فرحاً، تأخذ كتابك بيمينك من أمامك (ناجحاً) وتتلقاك الملائكة بالتِّرحاب؟
وذلك لا يكون إلا بجهادك لنفسك، وتزكيتها، وتربيتها، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: 10)، فجهاد النفس وتنميتها بالعمل الصالح الذي هو أساس بناء الحضارة الصالحة، المبنية على فكرة الإيمان بالله الواحد، وما أنزله على رُسله الكرام من كتب ومناهج ليدلُّوك على الصالحات، ويُحذِّروك من الطالحات، لتُكون حياتك ومسيرتك لله.
فالحضارة السماوية التي يُريدها الخالق تعالى من عباده أن يبنوها في هذه الدنيا، يجب أن تبدأ من منهج السماء، الذي يُبنى على فكرة الإيمان، والتوحيد، والطاعة والانقياد المطلق للقائد (الرسول أو الولي)، والمعاد إلى الله، وتلك هي أصول الدِّين، وبما أن الأصول كاملة فالبناء سيكون محْكماً وراقياً وحضارياً قيمياً إلهياً وإنسانياً، وهذا ما تصنعه وتُبينه آيات القرآن الحكيم كلها، ومنها هذه الآيات الرائعة من سورة العنكبوت المباركة.
[.. علينا أن نمتلك الشجاعة لطرح النظرية القرآنية بقوة واقتدار لأنها هي النظرية التي يجب أن تحكم العالم لا العولمة، لأنها صالحة ومصلحة لدنيا الأفراد والمجتمعات كلها، والعولمة المعاصرة هي نشر الفساد والخراب، والتَّحلل الخُلقي بين شعوب الأرض ..]
وهذا ما أشار إليه سماحة السيد المرجع المدرسي في تفسيره حيث قال ومثَّل: “تُعطي هذه الآية أملاً لمَنْ يرزح تحت سياط الجلادين، أو في دهاليز سجون الظالمين، أو المنبوذين بسبب إيمانهم، فمتى ما تناهى البلاء قرُب الفرج، وإن جهادك وصبرك إنما هو بعين الله، لقد بعث الطاغية العباسي هارون الرشيد إلى الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، الذي كان معتقلاً عنده مَنْ يستميله، فبعث الإمام عليه السلام، إلى الرشيد من الحبس برسالة: “إِنَّهُ لَنْ يَنْقَضِيَ عَنِّي يَوْمٌ مِنَ الْبَلَاءِ إِلَّا انْقَضَى عَنْكَ مَعَهُ يَوْمٌ مِنَ الرَّخَاءِ حَتَّى نَقْضِيَ جَمِيعاً إِلَى يَوْمٍ لَيْسَ لَهُ انْقِضَاءٌ يَخْسَرُ فِيهِ المُبْطِلُونَ“. (بحار الأنوار: ج 48، ص 148)
ولذا شبه أجمع المفسرون إلى أن (الجهاد) المذكور في الآية هنا؛ هو جهاد النفس وتزكيتها، وهو الجهاد الأكبر، كما سمَّاه رسول الله صلى الله عليه وآله، ويقول سماحته فيها: “الذين يجاهدون أهواءهم وشياطين الإنس إنما يعملون لأنفسهم”، ثم يقول: “عندما يقاوم المؤمن سلبيات نفسه، ويتحدى ضغوط الحياة يكتب عند الله مجاهداً، وأيام الإنسان كأوراق الشجر التي تتساقط في فصل الخريف، فإنه إذا لم ينتفع منها الإنسان وهي خضراء فتذهب هباءً، وأيام ابن آدم إن ذهبت فلن تعود، فقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: “مَا مِنْ يَوْمٍ يَأْتِي عَلَى ابْنِ آدَمَ إِلَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا يَوْمٌ جَدِيدٌ وأَنَا عَلَيْكَ شَهِيدٌ فَقُلْ فِيَّ خَيْراً واعْمَلْ فِيَّ خَيْراً أَشْهَدْ لَكَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ“. (الكافي: ج 2 ص 523).
ثم يعطي جنابه مثالاً واقعياً من حياتنا المعاصرة: (فلنستغل الفرصة كي لا تتحول أيامنا إلى أوراق نقدية لا رصيد لها، جاء في الحديث: “الدُّنْيَا سَاعَةٌ فَاجْعَلُوهَا طَاعَةً” (بحار الأنوار: ج 74، ص 166) (تفسير من هدى القرآن: ج6، ص: 401)
فلكي تبني حضارة راقية يجب أن تعمل عملاً راقياً، وتتخلَّق بأخلاق الرُّقي، التي ترفعك في حياتك لتكون إنساناً بكل معنى ومبنى الكلمة، وعملك هو الذي يعكس فكرك في هذه الحياة ولذا قال أمير المؤمنين عليه السلام: “قيمة كل امرء ما يحسنه”.
وعلى مرِّ التاريخ لا بدَّ للبناء من همَّة ونشاط، وكدٍّ وجدٍّ وبذل الجهد وكلما كانت الهمَّة أعلى كان البناء أعلى، ولكما كان العمل أحسن كان العمل أرقى، فهذه أشبه بقوانين إنسانية جعلها الخالق سبحانه وتعالى في أساس البناء الحضاري وهو (الفتنة والامتحان)، وعليه يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “قدر الرجل قدر همته)، و”يطير الرجل بهمته كما يطير الطائر بجناحيه”.
فصعود المراقي تحتاج إلى المجاهدة، فعنه عليه السلام قال: “الشَّرَفُ بِالهِمَمِ العَالِيَةِ لَا بِالرِّمَمِ البَالِيَةِ”، فمَنْ أراد أن يفتخر بشيء عليه أن يفتخر بعمله الصالح، وهمَّته العالية في الخير والفضيلة، لا أن يفتخر بآبائه وأجداده وهم أموات لا يعلم عن مصيرهم شيء في الآخرة، وعنه عليه السلام قال: “مَنْ رَقَى دَرَجَاتَ الْهِمَمِ عَظَّمَتهُ الأُمَمُ”.
فلتَكون على مستوى العالم والشعوب والأمم يجب أن تكون همَّتك في الصعود إلى الدرجات العالية بهمَّة وقوَّة وشجاعة تجعله محطَّ أنظار العالم أجمع، وشعوب الدنيا كلها لا سيما في هذا العصر المعولم الذي جعل الدنيا والكرة الأرضية قرية صغيرة إلكترونية، فمن السَّهل علينا صار الحديث بهذا العموم والشمول، لأننا من قبل كانت الأفكار قاصرة، والأحلام فاترة عن هذا التقدم العملاق في أدوات التواصل بين الأمم والشعوب.
ولذا صار علينا أن نمتلك الشجاعة لطرح النظرية القرآنية بقوة واقتدار لأنها هي النظرية التي يجب أن تحكم العالم لا العولمة، لأنها صالحة ومصلحة لدنيا الأفراد والمجتمعات كلها، والعولمة المعاصرة هي نشر الفساد والخراب، والتَّحلل الخُلقي بين شعوب الأرض، فهي الأمركة بنسختها الهوليودية التافهة، والساقطة عن كل الاعتبارات القيمية والفضائل الأخلاقية حتى الإنسانية.
فالقرآن نزل على الإنسان ليأخذ بهُداه، ويقتفي أثره، ليسير على الصراط المستقيم، والمنهج القويم، الذي رسمه له، فإذا سار بهذا الاتجاه وصل إلى غايته وسعد في نهايته، ولكنه إذا تركه وضلَّ عنه فإنه سيعيش معيشة ضنكاً، فحاله كحال البهائم تماماً، صمٌّ عميٌّ فهم لا يعقلون ولا يفقهون.
فالناس والشعوب والأمم الآن لا يعيشون ولكنهم يُقلِّدون الحياة، إذ هناك تقنيات ما عهدناها من قبل سيئة السمعة تهدف إلى تجريد الإنسان من إنسانيته، والشعوب من قِيَمِها وأخلاقها، ويتمُّ استخدامها لتدمير الذاتية، والحضارة، والقدرة على التصرف، فيما يتعلق بمصير الشعوب، والأمم كلها فحوَّلت الجميع إلى سلع يُباعون في سوق الحضارة الرَّقمية، فضاعت الإنسانية، وأغلى شيء في الإنسان وهي كرامة، وشرف، وقيمة الإنسان الحقيقية في زحمة هذا العصر الأغبر وهذا ما تجلى للعيان وظهر على عيون الجميع في هذه الجائحة الكورونية التي قلبت الحضارة على أصحابها.