إذا كان لكل نعمة غاية فما غاية نعمة شهر رمضان؟
وإذا كانت كل نعمة تقتضي حمداً وشكراً، فكيف نشكر هذه النعمة؟
الذي يفهم من مجموع الروايات أن هذا الشهر، شهر حياة، أي أنه كائن حي يؤثر في عالم المعنى حتى أن الشياطين تغل في هذا الشهر وتتغير سنن الله في الثواب والعقاب، ويعامل العباد في هذا الشهر معاملة خاصة، ويتحف الله عباده في هذا الشهر بتحف وجوائز، وكل ذلك إنما يقتضي حمداً وشكراً.
ولذلك نجد أن أدعية الأئمة عليهم السلام في استقبال هذا الشهر تبدأ بحمد الله تعالى، يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه لإستقبال هذا الشهر: “الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِحَمْدِهِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِهِ، لِنَكُونَ لاحْسَانِهِ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَلِيَجْزِيَنَا عَلَى ذلِكَ جَزَآءَ الْمُحْسِنِينَ”، الى ان يقول: “وَالْحَمْدُ لِلّه الَّذِي جَعَلَ مِنْ تِلْكَ السُّبُلِ شَهْرَهُ شَهْرَ رَمَضَانَ”.
[.. حمد نعمة هذا الشهر، بأن يبلغ الإنسان تلك الغاية التي أراد الله تبارك وتعالى من هذه النعمة وهي ما ذكرتها الآية المباركة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، التقوى ميراث الصيام ..]
إذن هذه نعمة إلهية تقتضي حمداً، ولأن الله تبارك وتعالى جعل لكل نعمة غاية فمن حمد النعمة وصل بتلك النعمة إلى غايتها، وإلا فستتحول هذه النعمة إلى نقمة، فنعمة المال ـ مثلاً ـ قد تتحول وبالاً على الإنسان لو لم يبلغ بها ذلك الهدف الإلهي فتكون دولة بين الأغنياء حتى يمحقها الله لما رابى بها الناس وأصبحت وسيلة للإستضعاف والظلم، بينما جعل الله للمال غاية سامية وهي أن يستعين به المرء على دينه1 ويوفر بها على نفسه ويرى أثر النعمة عليه2، و يوسع صاحب النعمة على عياله بها3 وهكذا.
وهكذا هو حمد نعمة هذا الشهر، بأن يبلغ الإنسان تلك الغاية التي أراد الله تبارك وتعالى من هذه النعمة وهي ما ذكرتها الآية المباركة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، التقوى ميراث الصيام، والمؤمن الذي لا ينتفع من نعمة هذا الشهر في التحصن بالتقوى لم ينتفع من هذا الشهر بشيء ولم يحمد نعمة هذا الشهر.
تدبّر؛ لو أنّك دعوت أحدهم إلى مائدة، وصنعت له من صنوف الطعام ما لذ وطاب، ثم أخذ الطعام و القاه في القمامة وبدأ يشكرك بلسانه ما شاء الله. فهل تعده شاكراً لنعمتك عليه؟
هكذا هو حال من يكون حظه في هذا الشهر، الجوع والعطش.
المهم أن نسعى للوصول إلى درجات التقوى لكي ننال فضل هذا الشهر، في حديث للنبي، صلى الله عليه وآله، يبين فيه أن الصائم في هذا الشهر يحظى بسبع جوائز من الله فيقول: “ما مِن مُؤمِن يصومُ شهر رمضان احتِسابا إلا أوجب الله ُ ـ تبارك وتعالى ـ لهُ سبع خِصال:
أولُها: يذوبُ الحرامُ في جسدِهِ.
والثانِيةُ: يقرُبُ مِن رحمةِ اللهِ –عز وجل -.
والثالِثةُ: يكونُ قد كفّر خطيئة آدم أبيهِ، عليه السلام.
والرابِعةُ: يُهونُ الله عليهِ سكراتِ الموتِ.
والخامِسةُ: أمان مِن الجوعِ والعطشِ يوم القِيامةِ.
والسادِسةُ: يُعطيهِ الله براءة مِن النارِ.
والسابِعةُ: يُطعِمُهُ الله عز وجل مِن طيباتِ الجنةِ”.
لكن هذه الجوائز لا ينالها كل أحد، بل ينالها من تَصوم جوارحه وجوانحه، ليس عن الاكل والشرب والنكاح فقط، بل تصوم هذه الجوارح بأن يجعلها في طاعة الله.
يقول الإمام زين العابدين عليه السلام: “وَأَعِنَّـا عَلَى صِيَـامِـهِ بِكَفِّ الْجَـوَارِحِ عَنْ مَعَاصِيْكَ، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ بِمَا يُرْضِيْكَ، حَتَّى لاَ نُصْغِي بِأَسْمَاعِنَا إلَى لَغْو، وَلا نُسْرِعُ بِأَبْصَارِنَا إلَى لَهْو، وَحَتَّى لاَ نَبْسُطَ أَيْدِيَنَا إلَى مَحْظُور، وَلاَ نَخْطُوَ بِأَقْدَامِنَا إلَى مَحْجُور، وَحَتَّى لاَ تَعِيَ بُطُونُنَا إلاَّ مَا أَحْلَلْتَ، وَلا تَنْطِقَ أَلْسِنَتُنَا إلاَّ بِمَا مَثَّلْتَ، وَلا نَتَكَلَّفَ إلاَّ ما يُدْنِي مِنْ ثَوَابِكَ، وَلاَ نَتَعَاطَى إلاّ الَّذِي يَقِيْ مِنْ عِقَابِكَ”.
-
كيف نستفيد من هذه الفرصة؟
تسألني كيف يمكن أن نكون من أحسن العبيد نصيباً في هذا الشهر؟ والجواب بأمور خمس:
-
الأمر الأول: معرفة هذا الشهر
لهذا الشهر إثنان وثلاثون اسماً تبين سماته، وهذا الشهر هو أول العام، لأنها بداية تجديد دورة الحياة المعنوية للإنسان، ونحن نجد أن النبي، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته الكرام، أكدوا على هذه الأسماء في أدعيتهم وكلماتهم عن هذا الشهر لنعرف هذا الشهر.
ذلك أن المرء لا يمكنه الإستفادة من هذا الشهر إلا إذا عرفه، تماماً كما أنك لو أردت السفر إلى مكان جديد، سوف لا يمكنك التمتع بسفرتك إلا إذا قرأت جيداً وعرفت المكان الذي تسافر إليه، كذلك الدخول في ضيافة الرحمن لا يمكن الإستفادة منها إلا بمعرفتها مسبقاً ولذا تجد أن الأئمة عليهم السلام لهم أدعية في استقبال هذا الشهر ومن يقرأها يجد أنها في الأغلب تعريف بهذا الشهر وخصاله.
فمن لا يعرف مثلاً أن هذا الشهر هو شهر الغفران، وإكتساب الرضوان تراه في هذا الشهر ينشغل بالمسلسلات والحلويات ولعب المحيبس، بينما ترى الآخر العارف بحقائق هذا الشهر يقضي النهار بتلاوة القرآن ويفتح ليله بدعاء الإفتتاح ويختمه بمناجاته مع ربه بدعاء أبي حمزة الثمالي، و يستعد كل الإستعداد لنيل فضائل ليلة القدر.
[.. من المعيب أن يأتي أحدهم ليسأل عن مسألة في الصلاة والصوم وهو يعملها خطأً طيلة 40 عام!
ألم يأن لنا أن نتوقف عن ذلك، لماذا لا نضع برنامجاً لدراسة الأحكام الشرعية، الرسائل العملية متوفرة، والدورس موجودة ..]
-
الأمر الثاني: الإهتمام بالجانب العقدي
فلابد لكل واحد منّا أن يرسخ عقائده بدءاً بالتوحيد وانتهاءاً بالمعاد، خصوصاً في هذا العصر الذي نتعرض له، إلى أنواع الهجوم الثقافي الأهوج، شبابنا اليوم أحوج ما يكونوا إلى الإستفادة من هذه المحطة الإلهية، ولا عذر لأحد في هذه الأيام في ذلك فشبكة الإنترنت والقنوات الفضائية و مجالس الذكر الإيمانية منتشرة في أرجاء المعمورة ويكفي أن يضع المرء برنامجاً للإستفادة منها في هذا الشهر لكي لا تبقى رؤيتنا تجاه الأمور ضبابية، وتزل الأقدام بأول شبهة تعترينا.
-
الأمر الثالث: التفقه في الدين
من المعيب أن يأتي أحدهم ليسأل عن مسألة في الصلاة والصوم وهو يعملها خطأً طيلة 40 عام!
ألم يأن لنا أن نتوقف عن ذلك، لماذا لا نضع برنامجاً لدراسة الأحكام الشرعية، الرسائل العملية متوفرة، والدروس موجودة، لنطلب من عالم الدين أن يعلمنا بعض المسائل الشرعية قبل المحاضرة الدينية، نعم؛ لابد لنا من التفقه في ديننا، ففي وصية الإمام الصادق، عليه السلام للمفضل بن عمر قال: “تفقهوا في دين الله ولا تكونوا أعراباً، فانه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله اليه يوم القيامة ولم يزك له عملا”.
-
الأمر الرابع: تعميق الولاء لأهل البيت
أهل البيت هم واسطة اللطف الإلهي، فبهم تنزل السماء قطرها، وبهم تخرج الأرض بركاتها، وبيُمنهم يرزق الورى، ومن الضروري أن يستفيد المرء من هذه الفرصة عبر التوجه إليهم، وزيارة مراقدهم، وخصوصاً مولانا وولي نعمتنا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
-
الأمر الخامس: الإهتمام بكتاب الله
كتاب الله ذلك الحبل المدود بين السماء والأرض، لابد أن نعود إليه، لنتلو آياته ونتدبر فيها، لا يكون همنا في هذا الشهر الإنتهاء من قراءة الأجزاء فحسب، بل نضع برنامجاً للإستفادة من آياته فيما يخص حياتنا وكما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “ولا يكونّن هَم أحدكم آخر السورة”.
وبإختصار: فإن القرآن كتاب وعي وعمل، لا كتاب الموتى!
إنه الكتاب الذي يقول عنه أمير المؤمنين عليه السلام: “ما جالس أحد هذا القرآن إلا قام بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى أو نقصان في عمى”.
ومن أهم ما ينبغي على المؤمنين الاهتمام به في هذا الشهر هو التدبر في آيات هذا الكتاب.
-
نداء أمير المؤمنين للصائمين
ختاماً نصغي إلى خطة للإمام أمير المؤمنين، عليه السلام، خطبها في أول هذا الشهر الفضيل في مسجد الكوفة المعظم مخطاباً بها الصائمين في هذا الشهر يقول عليه السلام:
“أَيُّهَا الصَّائِمُ تَدَبَّرْ أَمْرَكَ فَإِنَّكَ فِي شَهْرِكَ هَذَا ضَيْفُ رَبِّكَ انْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ فِي لَيْلِكَ وَ نَهَارِكَ وَ كَيْفَ تَحْفَظُ جَوَارِحَكَ عَنْ مَعَاصِي رَبِّكَ انْظُرْ أَنْ لَا تَكُونَ بِاللَّيْلِ نَائِماً وَ بِالنَّهَارِ غَافِلًا فَيَنْقَضِيَ شَهْرُكَ وَ قَدْ بَقِيَ عَلَيْكَ وِزْرُكَ فَتَكُونَ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الصَّائِمِينَ أُجُورَهُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَ عِنْدَ فَوْزِهِمْ بِكَرَامَةِ مَلِيكِهِمْ مِنَ الْمَحْرُومِينَ وَ عِنْدَ سَعَادَتِهِمْ بِمُجَاوَرَةِ رَبِّهِمْ مِنَ الْمَطْرُودِين”.
“أيُّهَا الصّائِمُ، إن طُرِدتَ عَن بابِ مَليكِكَ فَأَيَ بابٍ تَقصِدُ؟ وإن حَرَمَكَ رَبُّكَ فَمَن ذَا الَّذي يَرزُقُكَ؟ وإن أهانَكَ فَمَن ذَا الَّذي يُكرِمُكَ؟ وإن أذَلَّكَ فَمَن ذَا الَّذي يُعِزُّكَ؟ وإن خَذَلَكَ فَمَن ذَا الَّذي يَنصُرُكَ؟ وإن لَم يَقبَلكَ في زُمرَةِ عَبيدِهِ فَإِلى مَن تَرجِعُ بِعُبودِيَّتِكَ؟ وإن لَم يُقِلكَ عَثرَتَكَ فَمَن تَرجو لِغُفرانِ ذُنوبِكَ؟ وإن طالَبَكَ بِحَقِّهِ فَماذا يَكونُ حُجَّتُكَ؟”.
——————————-
1 قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: “نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ الْغِنَى”.
2. قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع: “إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ وَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ النِّعْمَةِ عَلَى عَبْدِهِ”
3. بحارالأنوار ج : 75 ص : 335
4 . فضائل الأشهر الثلاثة، ص: 108.