إذا أردتَ أن تتحدث عن الجهاد فكراً وممارسة، فقهاً ودلالة، هذا يعني أنك تتحدَّثُ عن الأمير.
لأنك لن تستطيع أن تتحدث عن الجهاد في الإسلام إذا لم تحكي قصة البطولة بأجلى معانيها، والرجولة بأعلى مبانيها، والفداء بأرقى صوره، بمعزل عن علي بن أبي طالب عليه السلام؟
فالجهاد مسروماً إلهياً، وفرماناً ربانياً، قام به أمير المؤمنين، وقائد الغر المحجلين، رئيس أركان الجيش الإسلامي، ونائب القائد العام له، وحامل لواء النصر والتوحيد في كل الحروب التي قامت في عهد الرسول القائد الأقدم، صلى الله عليه وآله، إلا في غزوة تبوك حيث استخلفه على المدينة لأنها لا تصلح إلا بأحدهما،: “فإنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهلي، ودار هجرتي وقومي؛ أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي“.
وأمير المؤمنين، عليه السلام سجَّل حضوره في كل ساحات الجهاد حتى قبل تشريع الجهاد، وذلك لأنه منذ أن كان طفلاً أخذه رسول الله، صلى الله عليه وآله، وربَّاه في بيته الشريف ووصف ذلك في قاصعته: “وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وليدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ، وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ“. (نهج البلاغة: الخطبة القاصعة 192).
فالحق نقول: أن علي بن أبي طالب عليه السلام، هو معجزة رسول الله صلى الله عليه وآله ، الخالدة، وقرآنه الناطق، ووليه وخليفته في أمته، لأنه الأجدر بذلك من كل أحد على وجه الأرض، وهذا التاريخ يشهد على صدق ما نقول، وسلامة ما ندَّعي في هذا المقام.
-
الإعجاز التربوي
التربية الصالحة تصنع الإنسان الصالح، والإنسان يصنع المعجزات في هذه الحياة فعلاً، فرسول الله، تربَّى في حجر عمِّه أبي طالب، عليه السلام، منذ أن كان في الثامنة من عمره فكان لهما ولدٌ قبل أن يولد لهما أولاد، وببركته ومشورته لأمه فاطمة بنت أسد – كما كان يُسميها أمي بعد أمي – رُزقا بخمسة أولاد، أربعة ذكور وبنت واحدة.
وبقي في بيت عمِّه حتى زوَّجه من السيدة خديجة بنت خويلد سيدة قريش الطاهرة، حيث خطب وعقد وأنفق على ذلك الزواج الميمون الذي جمع أشرف رجل بأطهر امرأة في ذلك الحين.
فما أن استقر في بيته حتى أخذ أصغر أبناء عمه أبي طالب الذي سماه علياً منذ أن أخذه من أمه حين خرجت من الكعبة المشرَّفة تحمله، فأخذه منها وحمله إلى بيتها، وسمَّاه علياً رغم أنها سمته حيدرة باسم أبيها أسد، وكان ذلك منذ نعومة أظفاره فالمؤرخون يقولوا: “كان في الثالثة من عمره الشرف، أو أكبر من ذلك بقليل، والمهم أنه تربَّى في بيت الشَّرف الذي حُرم من ذرية الذكور فكان ولداً لهم بكل معنى الكلمة”.
التربية الصالحة تصنع الإنسان الصالح،
والإنسان يصنع المعجزات في هذه الحياة
فكل فضيلة ونَجدَة وقيمة ظهرت وتبلورت بعلي بن أبي طالب، عليه السلام، هي من غرس محمد وتربيته له ورعايته واهتمامه به ولذا كان يقول: “أنا من محمد ومحمد مني“، وقال: “أنا من رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله) كالعضد من المنكب، وكالذراع من العضد، وكالكفّ من الذراع، ربّاني صغيراً، وآخاني كبيراً“، وقال : “أنا من أحمد كالضوء من الضوء“.
وهذا الأمر الذي شغل الكثيرين منذ تلك الأيام، حتى يأتي محمد بن حرب الهلالي أمير المدينة إلى الإمام الصادق، عليه السلام، ليسأله عنها، فقال الصادق :”أردتَ أن تسألني عن رسول الله لِمَ لَمْ يُطق حَمْلَهُ عليٌّ (عليه السلام) عند حطِّ الأصنام من سطح الكعبة مع قوته وشدَّته ومع ما ظهر منه في قلع باب القوم بخيبر والرمي به إلى ورائه أربعين ذراعاً، وكان لا يُطيق حمله أربعون رجلاً، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه واله) يركب الناقة، والفرس، والحمار، وركب البُراق ليلة المعراج، وكلُ ذلك دون عليٍّ في القوة والشدة؟”
“قال: فقلتُ له: عن هذا والله أردتُ أن أسألك يا ابن رسول الله فأخبرني.
فقال: إن عليا برسول الله تَشَرَّفَ (شَرُفَ) وبه ارتفع، وبه وصل إلى أن أطفأ نار الشرك، وأبطل كل معبود من دون الله عز وجل، ولو عَلاه النبي (صلى الله عليه واله) لحطِّ الأصنام لكان بعلي مرتفعاً وشريفاً واصلاً إلى حطِّ الأصنام، ولو كان ذلك كذلك لكان أفضل منه، ألا ترى أن علياً قال: (لما علوتُ ظهر رسول الله شَرُفتُ وارتَفعتُ حتى لو شئتُ أنْ أنالَ السماء لنلتها)؟ أما علمت أن المصباح هو الذي يُهتدى به في الظلمة، وانبعاثُ فرعه من أصله، وقد قال علي (عليه السلام): (أنا من أحمد كالضوء من الضوء!) أما علمت أن محمداً وعلياً صلوات الله عليهما كانا نوراً بين يدي الله عز وجل قبل خلق الخلق بألفي عام؟”. (بحار الأنوار: ج 34 ص81).
-
جهاد الأولياء لرفعةِ الإسلام
فالإمام علي عليه السلام، هذا المجاهد الذي لم يتحدث التاريخ عن مثله في كل شيء، لا سيما في بطولته وشجاعته وجرأته على اقتحام الموت أينما كان وكيفما وجد، بل كان يقول: “أَ بِالموت تخوِّفني وتهدِّدني؟ فوالله ما أُبالي وقعتُ على الموت أو وقع الموتُ عَلَيَّ”. (بحار الأنوار: ج 42 ص233).
وكتب ابن أبي الحديد في شجاعته فقال: “ولم يُربَّ بين الشجعان؛ لأنّ أهل مكّة كانوا ذوي تجارة ولم يكونوا ذوي حرب، وخرج أشجع من كلّ بشر مشى على الأرض. قيل لخلف الأحمر: أيّما أشجع عَنبسة وبسطام أم عليّ بن أبي طالب؟ فقال: إنّما يذكر عَنبسة وبسطام مع البشر والناس لا مع مَنْ يرتفع عن هذه الطبقة. فقيل له: فعلى كلّ حال، قال: واللَّه لو صاح في وجوههما لماتا قبل أن يحمل عليهما”. (شرح نهج البلاغة، ج 16: ص 146).
وقال فيه ابن أبي الحديد أيضاً :”وأمّا الشجاعة فإنه أنسى الناس فيها ذكر مَنْ كان قبله، ومحا اسم مَنْ يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة، يُضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة؛ وهو الشجاع الذي ما فرَّ قط، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلاّ قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية، وفي الحديث: (كانت ضرباته وتراً)، أي واحدة فقط”.
إلى أن يقول :”وما أقول في رجل تحبه أهل الذمَّة على تكذيبهم بالنبوة، وتُعظِّمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة، وتُصوِّر ملوك الفرنج والروم صورته في بيعها، وبيوت عباداتها حاملاً سيفه مشمراً لحربه، وتُصوِّر ملوك الترك، والدَّيلم صورته على أسيافها؛ كان على سيف عضد الدولة بن بويه، وسيف أبيه ركن الدولة صورته، وكان على سيف ألب أرسلان، وابنه ملكشاه صورته كأنهم يتفاءلون به النصر والظفر”. (مقدمة شرح النهج لابن أبي الحديد).
و كيف يفرُّ وهو المقدام، أو كيف يهرب وهو الحيدرة الضرغام، وهو القائل في صفين: “واللَّه، لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها، ولو أمكنت الفرصُ من رقابها لسارعتُ إليها، وسأجهَد في أن اُطهّر الأرض من هذا الشخص المعكوس، والجسم المركوس”، ويعني معاوية.
لم يتحدث التاريخ عن مثل الإمام علي عليه السلام، لا سيما في بطولته وشجاعته وجرأته على اقتحام الموت أينما كان وكيفما وجد
وكان يقول بمناسبة أخرى ما هو أشد واعظم: “إنّي واللَّه لو لقيتهم واحداً وهم طِلاع (ملؤها) الأرض كلّها ما باليتُ، ولا استوحشت”.(موسوعة الإمام علي (ع) للريشهري).
فالإسلام العظيم الذي جاء على حين فترة من الزمن، وهجعة من الأمم، في عصر هو غاية في القسوة والتخلف والجاهلية، “فَرَأى الأُمَمَ فِرَقاً في أدْيانِها، عُكَّفاً على نيرانِها، عابِدَةً لأَوثانِها، مُنْكِرَةً لله مَعَ عِرْفانِها”، وفي قوم كانوا كما وصفتهم سيدة النساء عليها السلام :”وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ، مُذْقَةَ الشّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطّامِعِ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأقْدامِ، تَشْرَبُونَ الطّرْقَ، وَتَقْتاتُونَ الْوَرَقَ، أذِلَّةً خاسِئِينَ، {تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ}، فَأنْقَذَكُمُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى بِمُحَمَّدٍ.
ولكن كيف تمَّ ذلك سيدتي: “وَبَعْدَ أنْ مُنِيَ بِبُهَمِ الرِّجالِ، وَذُؤْبانِ الْعَرَبِ، وَمَرَدَةِ أهْلِ الْكِتابِ، {كُلَّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أطْفَأها اللهُ}، أوْ نَجَمَ قَرْنٌ لِلْشَّيْطانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قَذَفَ أخاهُ (عليٌّ) في لَهَواتِها، فَلا يَنْكَفِئُ حَتَّى يَطَأَ صِماخَها بِأَخْمَصِهِ، وِيُخْمِدَ لَهَبَهَا بِسَيْفِهِ”.
ولذا قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “قام الإسلام بمال خديجة، وسيف علي”، عليهما صلوات الله وسلامه، فلولا مال أمنا خديجة لما استطاع الرسول الأعظم، أن يتفرَّغ لتبليغ الرسالة، وكذلك لولا سيف ذا الفقار، وساعد أمير المؤمنين عليه السلام، وشجاعته بحمايته لرسول الله، بعد أبيه العظيم أبي طالب، لما استطاع أن يبني الإسلام، بل لقتلته قريش من أيامه الأولى ولدفنت دينه قبل أن يخرج من مكة إلى غيرها.
ولذا قال عليه السلام في خطبة الافتخار: “أنا كسرت الأصنام، أنا رفعت الأعلام، أنا بَنَيْتُ الإسلام”.
فبناء الإسلام كان ببطولته وفتوته وشجاعته وضربة سيفه التي كانت واحدة فقط منها تعادل عمل الثقلين الإنس والجن إلى يوم القيامة، أو تعادل عمل الصحابة إلى يوم الحساب، وهي يوم برز الإيمان كله إلى الشرك كله في يوم الأحزاب حين ضرب عمر بن عبد ود العامري فارس يليل.
فالسلام على الفتى الذي قام الإسلام بجهاده، وبنا الدِّين بسيف، ورحمة الله وبركاته.