{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
من خصائص المجتمع الذي يريده الإسلام أنه: مجتمع البناء والسعي والتقدم، فاذا شاهدت مجتمعاً تقهقر الى الوراء، وتخلَّف عن ركب الحضارة، فاعرف أنه ابتعد عن روح الإسلام وجوهره واكتفى بالاسم والعنوان فقط.
ليس عبثاً أنك تجد عشرات الآيات في القرآن الكريم تُقرن (الإيمان) بـ(العمل)، وليس مطلق العمل، بل (العمل الصالح)، أي العمل الايجابي البنّاء المنتج تغييراً وتقدماً في حياة المجتمع، تغييراً معنوياً ومادياً، سواء في حياته الدنيوية أو الأخروية
فليس عبثاً أنك تجد عشرات الآيات في القرآن الكريم تُقرن (الإيمان) بـ(العمل)، وليس مطلق العمل، بل (العمل الصالح)، أي العمل الايجابي البنّاء المنتج تغييراً وتقدماً في حياة المجتمع، تغييراً معنوياً ومادياً، سواء في حياته الدنيوية أو الأخروية.
وما يلفت النظر عند التدبر في هذه الآيات التي تحثُّ المسلم على العمل الصالح الى جنب الايمان – وهي تربو على الستين آية تقريباً- أنها جميعاً جاءت بصيغة الجمع وليس المفرد: (اعملوا الصالحات) (يعملون الصالحات)، وهذا يعني – فيما يعني – أنَّ على المجتمع برمّته التوجّه معا ويداً بيد في مسيرة رفد الإيمان بالعمل الصالح، فلا يكفي العمل على مستوى الفرد فقط.
-
العمل الجماعي ..آثار وفوائد
إذ المسلم هو لبنة واحدة في بناء الامة والمجتمع، وأهم خصائص المسلمين أنهم ليسوا أفراداً متفرقين يسعون فرادى لإصلاح أنفسهم، ولوعن طريق الرهبنة والاعتزال في الاديرة والصوامع، أو بناء حياتهم الدنيوية بشكل فردي دون الاعتناء والارتباط بالآخرين من أخوة الايمان فـ{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، وإنما المسلم يجد نفسه وهويته ضمن (الأمّة) المؤمنة المتحفِّزة للعمل الصالح.
ونلاحظ أيضاً عند تلاوة القرآن بتدبر أن الله تعالى لا يُخاطب المؤمن بمفرده إطلاقاً، فلا نجد آية تقول: يا ايها المؤمن، وانما نقرأ عبارة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} في مطلع ثمانية وثمانون آية من القرآن الكريم تتضمن أوامر ونواهٍ خاصة بالمؤمنين، ونجد العبارة نفسها مرة واحدة في وسط إحدى الآيات التي تأمرنا بالصلاة على النبي والتسليم له وعليه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، أي إن الله تعالى يخاطبنا كمجتمع وأمة وليس كأفراد متناثرين، وقد نستلهم من هذا الاسلوب الالهي الدقيق في مخاطبتنا أن الله تعالى لا يريد لنا أن نكون مؤمنين أشتاتاً.
بل مؤمنين اخواناً متعاضدين متكاتفين متعاونين: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، ومتواصين: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
المسلم هو لبنة واحدة في بناء الامة والمجتمع، وأهم خصائص المسلمين أنهم ليسوا أفراداً متفرقين يسعون فرادى لإصلاح أنفسهم، وانما هم تجمع ايماني يكمّل بعضهم بعضا
إذن، فالمسلم لا يعيش (فرداً) ولا يبني الحياة الدنيا أو الأخرى (بمفرده) بل هو واحد من (أمة)، وعضوٌ في (مجتمع)، وفردٌ من (الذين آمنوا).
وفلسفة ذلك واضح لمن يتدبر قليلاً في الأمر، إذ أن مسيرة التقدم والبناء التي ينبغي أن يسير فيها المسلم لها تحدياتها الكبيرة ومصاعبها وعقباتها، ولا يمكن للفرد كفرد أنْ يتجاوز كل كذلك ويتقدم بمفرده، بل لا بد أن تتضافر كل القوى والطاقات لمواجهة التحديات وتجاوز الصعاب والعقبات، وأن يتحول كل المسلمين الى أمة واحدة تبني حضارتها بتكاتف وتعاون: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}.
ثم إن الإنسان مخلوق إجتماعي، فاجتماعه مع الآخرين وتعاونه معهم إنما هو من فطرته التي فطره الله عليها، لذلك تجده ينزع الى بناء المدن، والحضارات ولا يكتفي بالعيش وحده ولوحده في مكان منعزل.
والآية الكريمة الواردة في بداية المقال تلفت أنظار المؤمنين الى شرطين أساسيين من شروط نجاح المجتمع في مسيرة البناء والتقدم، وفي تحقيق الحياة الطيبة في الدنيا والفلاح في الآخرة:
1- {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} والمراد من السِّلم – حسب الظاهر – هو الصلح والسلام، فالمجتمع المتنازع المتصارع الذي ترهقه الاختلافات والنزاعات لا يمكنه ان يتقدم ويبني، بل النزاع والخصام لا يؤديان إلّا الى الفشل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي قوتكم، فلا مناص من الدخول في السِّلم كافة، ومن يشذ عن ذلك يكون امره فرطاً.
وقد فسَّر بعضهم (السِّلم) بمعنى الإسلام وكلمة (كافة) بمعنى جميع الاسلام، وبناء على هذا التفسير فان الآية تعني أن من شروط الفلاح والتقدم الالتزام والعمل بالإسلام كله وليس الأخذ ببعضه وترك بعضه الآخر.
ولا ضير أن نأخذ بالتفسيرين معاً، فالقرآن له بطون ولكل بطن بطون، فلابد من استتباب الصلح والسلام في داخل المجتمع، ولابد من الالتزام بكل الإسلام، وفي الروايات ما يدل على ان من ابرز معالم الإسلام هو: الولاية، فلابد لنا من الدخول في ولاية الله والرسول وأهل بيته الأطهار، لأن كلمة التوحيد التي تنفي كل إله غير الله تعالى هي قمة الولاية، ورفض ما سوى الله ورسوله ورسالته اساس الدين وبناء الأمة.
2- {ولا تَتَبِعوا خطواتِ الشيطان} فالجانب الايجابي وحده لا يكفي، أي لا يمكننا الاكتفاء بالدخول جميعاً في دائرة الصلح والسلام، والعمل بالاسلام كله فقط، بل لا يمكن تحقق ذلك إلا بالجانب السلبي المشار اليه في الآية أيضا، وهو عدم اتباع خطوات الشيطان.
فالشيطان لنا عدو مبين، ولكنه لا يهجم علينا مرة واحدة حتى نحسّ به بوضوح، بل يأتينا خطوة فخطوة، والشيطان هنا مطلق، فقد يشمل شياطين الانس الى جانب شياطين الجن، فكلا النوعين من الشياطين الاعداء يتمتعون بالنفس الطويل في معاداة الأمة وفي وضع العراقيل والعقبات في مسيرتها، فهم يتقدمون الينا ويتغلغلون في حياتنا عبر خطوات، أي خطوةً فخطوة، فلو لم نلتفت باستمرار ونحذر منهم فانهم قد يستولون على كل مفاصل حياتنا، ويبعدونا عن الصراط المستقيم وعن السلم والاسلام، وبذلك نجد انفسنا في الحضيض ونسير القهقرى بدل التقدم الى الأمام.
ولقد جاء النهي عن اتباع (خطوات الشيطان) في اربع آيات من القرآن الكريم تتحدث عن الطعام واستثمار ما في الارض من طيبات، والدخول في السِّلم، وحول الاستفادة من الأنعام ووسائل النقل، وأخيراً في مواجهة الفحشاء والمنكر اللذين يأمر بهما الشيطان.
-
صفوة القول
لكي نحقق ارادة الله المتعال في بناء مجتمع ايماني فاعل متقدم لا بد من السعي لاستتباب الأمن والسلام في المجتمع، والابتعاد عن الصراعات والنزاعات التي تؤدي الى الفشل والتخلف، والحذر من اتباع خطوات الشيطان التي تتوالى ببطء حتى تستحوذ على حياة المجتمع وتبعده عن الاطار الرباني المطلوب.