-
الحياة مواقف
الحياة قاعة امتحان، وفي الامتحان يُكرم المرء أو يهان.
والحياة ميدان لصراع الحق والباطل، والخير والشر، والأنبياء والشياطين، والأولياء والطغاة الجبارين، ولكل منهم جبهته وجنده وسلاحه، و وسائله القتالية، وتكتيكه واستراتيجيته للوصول إلى أهدافه التي يناضل من أجلها.
وفي هذا الميدان تظهر المعادن -لا سيما الرجال- ويَبين الحال، وقديماً قيل: “للباطل صولة و للحق دولة”، أو “أن للباطل جولة وللحق صولة ودولة”، وما يظهر من مسيرة الإنسان على هذه الأرض من سيادة الباطل وقوته وتنمره ودولته على الحق في أغلب الأحيان، ما هو إلا خداع ظاهر، وحبل من الكذب الباطل، وهو من تسويلات الشيطان، و وسوسة النفس الأمارة.
نعم؛ قد يسود الباطل ويملأ الدنيا فساداً وظلماً وجوراً كما نرى الآن بأم العين، ولكن هل هذا هو الصحيح؟ أم أن العالم أجمع يضجُّ ويعجُّ من الظلم والفساد الذي استشرى في العالم الأجمع، وهذا يدلُّ على أن الباطل مهما تعملق وطغى وبغا، ما هو إلا فقاعة ما أن يأتيها الحق حتى يزهقها ويبطلها ويعيدها إلى أصلها التافه.
حاربتهم حتى آخر لحظة من حياتها، بل هي ماتزال تحارب أذناب وأحفاد أولئك القوم إلى هذا اليوم وحتى آخر يوم من عمر الظلم في هذه الدنيا، وذلك من خلال تغييب مكان قبرها عن الأمة، فهي صرخةٌ وتَظلُّم دائمة
قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}، (سورة الرعد، الآية:17).
وقديماً قالوا: “لا يصح إلا الصحيح”، و ربما نُسبت إلى أمير المؤمنين، عليه السلام، فهي تصبُّ في الصميم، لأن الصحيح ثابت وباقي في الأرض كالماء، و أما الزبد الطافي، والسراب الخاوي فهو محض هباء، أو {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً}، والإنسان عادة؛ إما يتبع الباطل ويكون كالسراب بقيعة، أو أنه يتبع الحق فيكون كالماء النافع أينما نزل نفع، فإما يُنبتُ، أو يسقي، أو يغسلُ، أو يجري، أو يمكثُ في الأرض ذخراً لحياة العباد يستخرجونه ليعيشوا منه.
-
صلابة الموقف الفاطمي
في المواقف الصعبة الحرجة تظهر معادن البشر القوية الصلبة، لأنها تتطلب من الإنسان أن يكون ثابتاً كالجبال الرواسي، وشامخاً كالقمم العالية إذا تطلب منه ذلك، فالحياة موقف وجهاد.
ولا يختلف الأمر هنا بين المرأة والرجل، فامرأة فرعون؛ السيدة آسيا، لم تقل صلابة عن كليم الله؛ موسى بن عمران، عليه السلام، الذي ربَّته في حجرها وبيتها، وآمنت به و بربه، وكفرت بفرعون، فأذاقها الطاغية أنواعاً من العذاب قد لا تخطر على بال بشر، كأن يُمشِّطون لحمها بأمشاط الحديد، وهي صامدة صابرة محتسبة ذلك كله أنه في عين الله، فضرب الله بها مثلاً للذين آمنوا.
وكذلك نجد سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء، عليها السلام، أصلب من الصلب، و أرسخ من الجبال في موقفها تجاه السلطة الظالمة لها ولزوجها وأبنائها الأطهار، فتراها حاربتهم حتى آخر لحظة من حياتها، بل هي ماتزال تحارب أذناب وأحفاد أولئك القوم إلى هذا اليوم وحتى آخر يوم من عمر الظلم في هذه الدنيا، وذلك من خلال تغييب مكان قبرها عن الأمة، فهي صرخةٌ وتَظلُّم دائمة.
موقف السيدة فاطمة، عليها السلام، بوجه الظلم والانحراف، حجة علينا جميعاً للوقوف مع الحق، وصلابة موقفها يجب أن يعطينا عزماً وثباتاً وقوة في مواقفنا بوجه الطغاة
فعندما أصدرت السلطة الجاهلية قراراً بمصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة لأهل البيت الأطهار، عليهم السلام، وسيدتهم فاطمة تراها، وهي على جراحها وحزنها، تخرج بكل هيبتها، وخفرها وعظمتها، كما تصفها ابنتها السيدة زينب، عليها السلام، بقولها: “لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمَّةٍ من حَفَدَتها ونساء قومها، تطأ ذيولها، ما تَخرمُ مشيتها مشية رسول الله، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشدٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنِيطتْ دونها ملاءة، فجلست، ثم أنَّت أنَّةً أجهشَ لها القوم بالبكاء، فارتجّ المجلس“.
وخطبت فيهم تلك الخطبة العصماء التي ما سمعت آذان الدهر مثلها منذ أن أنزل الله أبينا آدم، عليه السلام، من الجنة، وحتى يومنا هذا؛ بلاغةً، وفصاحةً، وحجةً وبرهاناً، ولم تمنعها أنوثتها المثالية، ولا عمرها الشبابي، ولا حزنها، ومصيبتها بسيد الخلق وخاتم المرسلين، من النطق بالحق، والمطالبة بالعدل والإنصاف الذي هو سبب التشريع، ولُباب الحُكم كما ينص القرآن الحكم.
فاطمة الزهراء، عليها السلام، كان بإمكانها أن تتعلل بأي علَّة حتى لا تقف في وجه السلطة الجائرة، ولكن علمها اللدُنّي، وإيمانها اليقيني، جعلها تقف ذلك الموقف من أجل الحق والدين والأخلاق وكل الفضائل لأنها أعطت الأمة الإسلامية، بل الدنيا والإنسانية المثال والقدوة الصالحة في مواقفها السامية، وصلابتها في وجوه الظالمين، الغاصبين، لتعطينا مثالاً من نفسها المقدسة، فلا نتوانى عن قول الحق بصدق، والوقوف في وجوه أهل الباطل في كل زمان ومكان في هذه الدنيا.
فموقف السيدة فاطمة، عليها السلام، بوجه الظلم والانحراف، حجة علينا جميعاً للوقوف مع الحق، وصلابة موقفها يجب أن يعطينا عزماً وثباتاً وقوة في مواقفنا بوجه الطغاة؛ نساءً ورجالاً، ولا نبحث عن مبررات لتخاذلنا عن نصرة الدِّين ورسالة رب العالمين، لاسيما في المواقف التي يتخاذل فيها معظم الناس، إما خوفاً أو جُبناً، أو طمعاً بفُتاة هذه الدنيا.
فصلابة الموقف الفاطمي هو درس لنا في هذا العصر الرهيب الذي تكالبت فيه الأمم على هذه الأمة المنكوبة بشرار خلق الله من الصهاينة واليهود وأذنابهم في المنطقة من أنظمة انتهجت التكفير، وأخرجت الناس من دين الله أفواجاً، لاسيما في العراق الجريح الذي ما يزال ينزف ويتعرض للضغوط الرهيبة لأنه لم يرضخ للطغيان الأمريكي ومحوره في المنطقة.
العراق اليوم يحتاج منا جميعاً موقفاً فاطمياً صلباً لا يلين ولا يتزعزع، وبذلك يحقق النصر على خوارج العصر مهما كانت قوتهم، فهم لا يُراهنون على قوتهم الطاغية بل يُراهنون على ضعفنا ووهننا وتخاذلنا تجاه تهديداتهم الخاوية والباطلة.
إن العراق، أرض علي والحسين، عليهما السلام، وأهله هم أبناءهم وشيعتهم، وهم ورثة حضارات رائدة في العالم، ولن يستطيع أحد من هؤلاء الذين يحاولون يائسين أن يُغيِّروا صبغة العراق وشعبه إلى ما يريدون.
ثم إن العراقيين رجال علم وفهم ودين، وليسوا عصابات قتل وجهل وتخلف، تعلموا أصول الحضارة وقيمها من أساتذة الكون وسادته؛ أمير المؤمنين، والصديقة الطاهرة، عليهما السلام، فأخذوا منهما العلم والدِّين، وتعلموا منهما صلابة الموقف بوجه الطغاة والجبارين.