{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
إن الله تبارك وتعالى حينما خلق الخلق، و أوجدهم، لم يخلقهم عبثاً، ولم يتركهم سُداً، وإنما خلقهم لهدفٍ، و رسم لهم طريقاً، و وضع لهم منهاجا، وكتب لهم دستوراً ينظم حياتهم الاجتماعية بكل تفاصيلها. وذلك المنهج والدستور هو القرآن الكريم، إذ أن فيه بصائر وهدى تنير طريقنا في الحياة فهو {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
إذا تحصن المجتمع كله بالتقوى وكان هو الدستور الذي ينظم حياة أبنائه، وتكون
كل علاقاتهم محكومة بها؛ فعندئذ يصل هذا المجتمع إلى أعالي القمم
ونحن إذ نتعرض في هذه الآية، والتي هي بعض من تفصيل القرآن لتنظيم حياة البشرية، تعطينا هذه الآية ثلاثة عوامل للنهوض الحضاري في المجتمعات الاسلامية وتنظيم حياة المجتمعات وكيفية العلاقة فيما بينها.
هذه الآية تعطي لنا بصيرة هامة لابد لكل شخص أن يفهمها وهي أن جميع الناس هم خلق الله –تعالى- وعباده، فهو الذي خلقهم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ}، فبما أن الله هو خالق جميع الناس وهو سيدهم والكل له عبيد، إذن لايوجد شيء اسمه “شعب الله المختار”، إنما جميع “الناس سواسية كأسنان المشط”، ولا هناك قوم أسياد، وقوم عبيد، إنما الجميع عبيد لله؛ فلابد أن نحترم جميع الشعوب والقبائل لأنهم خلق الله وعباده، ولأنهم إما أخوة لنا في الدين أو نظراء لنا في الخلق.
وبعد أن يعرّفنا الله ويفهمنا بهذه البصيرة، يقدم لنا القرآن الكريم من خلال هذه الآية الكريمة أسس التعامل الذي لابد أن يكون فيما بيننا كشعوب وقبائل ومجتمعات، وهذه الأسس ما إن طبقها مجتمع، إلا وكسب عوامل نهوضه وتقدمه وتطوره، وهذه الأسس والعوامل هي كما نفهمها من الآية الكريمة:
-
1- التعارف {لتعارفوا}
إن الله -تبارك وتعالى- خلق الحياة، بعضها يكمل بعض، وكل شيء فيها يحتاج إلى شيء آخر لتكميله، ومن ذلك؛ المجتمعات البشرية، فهي أيضاً محتاجة لبعضها البعض من أجل التكامل، فلايمكن للتكامل أن يحدث إلا بالتعارف، ففي داخل المجتمع لابد لأبنائه من أن يتعارفوا على بعضهم البعض حتى يتكاملوا، لا أن يتناقضوا ويتنابزوا ويتناحروا، ثم بعد أن يتعارف أبناء المجتمع الواحد ويتكاملوا، لابد لهم من أن يتعارفوا أيضا على بقية المجتمعات والشعوب ويتكاملوا معهم.
-
2- التعاون
وهو يكون نتاج التعارف، فبعد أن يتعارف أبناء المجتمع على بعضهم سيتعاونون فيما بينهم، وكذلك سيتعاونون مع بقية المجتمعات، ولابد أن تكون دعوتهم مبنية في التعاون على العمل الصالح لا على المصالح والمنافع الشخصية.
-
3- التقوى
وهي العامل الاساس الذي لابد للمجتمعات أن تقوم عليه، وهي الأساس التي تنبع منها جميع العوامل التي تساعد على نهوض المجتمع، فالتعارف يكون على أساس التقوى، والتعاون ينبع منها.
فكل مجتمع لا تقوم له قائمة ولا يرتقي إلا بأن يبنى على أساس القيم الروحية والأخلاقية، لا على أساس الماديات، والتقوى هي روح القيم الأخلاقية.
التقوى هي القانون الداخلي الذي ينظم حياة المجتمع وهي الرادع الذي يمنع من وقوع الجريمة والفساد.
وإذا تحصن المجتمع كله بالتقوى وكان هو الدستور الذي ينظم حياة أبنائه، وتكون كل علاقاتهم محكومة بها؛ فعندئذ يصل هذا المجتمع إلى أعالي القمم.
فعندما تكون التقوى هي القيمة الأساسية التي يعترف بها أبناء المجتمع فإنه لايكون هناك اعتباراً للقيم والمسميات الزائفة والتي تعمل على تمزيق المجتمع الإسلامي، وتقسيمه إلى مجاميع مختلفة ومتناقضة فيما بينها، و إذا صارت التقوى هي المقياس، فلا يكون هنالك مكاناً للاختلاف والتناقض والتناحر، بل سيحل مكانه التعارف والتواصل والتفاهم، ومن ثمّ يؤدي ذلك إلى التعاون.
فعندما تكون التقوى موجودة لدى أبناء المجتمع، بالطبع سيكون لديهم التعاون فيما بينهم، وان تعاونهم سيكون -لا محالة- على البر والتقوى، وعلى الخير والإحسان، وعلى الإصلاح والأعمار، لا على الإثم والعدوان وعلى الإفساد والتخريب.
لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض من أزمته، ويقوم من محنته إذا لم تضبط حياة أبنائه على أساس التقوى، وتكون هي الوقود الذي يسير حركتهم. فإذا لم توجد التقوى عند أبناء مجتمع ما فإن هذا المجتمع سيتآكل من الداخل، وبدل أن يقوم أبناؤه بإصلاحه وتطويره، سيقومون بافساده وتخريبه، لأن كل عمل يقومون به إن لم يكن مؤطراً بالتقوى فإنه سيصب في مضرة مجتمعهم لا في مصلحته.