هي “زهرة الأسرة التي تجتذب أنواعاً من النحل حولها، تسقيهم من رحيقها ليسقوا المجتمع من عذب أعسالهم”.
هكذا يقدم مؤلِّف هذا الكتاب الصغير في حجمه الغني بإضاءاته لطريق بنات حواء لتحقيق أحلى الامنيات.
وبأسلوبه الشيّق، وخطابه المباشر، يؤكد المؤلِّف من الأسطر الأولى من كتابه هذا على أن “الهوية الأولى والجوهرية للمرأة أنها أمّ، وبعد ذلك، وعلى هامش المتغيرات تأتي الهويات الأخرى لتدور على رحى الأمومة بالدرجة الأولى”.
ولإعطاء مصداقية لهذا الاعتقاد يقدم الشيخ الدكتور البلوشي أربع حُجج؛ عقدية واجتماعية، ونفسية، وإحيائية- طبيعية.
في الحُجّة العقدية نقرأ “الإشارات القرآنية”، و”الدور الأخلاقي” فيتحفنا بطائفة من الآيات الكريمة التي تبلور هوية الأنثى كما أراد لها خالقها –عزّوجلّ- وهي الأمومة لا غير، مستشهداً بنماذج راقية كانت العضد والمساعد للأنبياء والمرسلين، مثل أم نبي الله موسى، وسارة زوجة نبي الله إبراهيم التي وهبها الله الولد وهي طاعنة في السن.
وثمة التفاتة جميلة من سماحة الشيخ المؤلِّف الى دور الرعاية والحضانة في إطار حديثه عن أمومة المرأة غير الولود، واصفاً إياها بـ “حضن الكرامة”، ويشير الى النموذج العظيم في امرأة فرعون و رعايتها للطفل الرضيع الذي وجدوه في صندوق عائم على سطح النيل، ثم ليكون هو نبي الله موسى، عليه السلام، والسبب “أن قلبها هفا للولد، وتهيجت فيها مشاعر الأمومة بمجرد أن وقعت عيناها على الطفل الصغير الذي ألقاه النهر في حضنها”، وبذلك يرسم سماحته صورة كبيرة لدور الأمومة للمرأة يشمل القادرة على الانجاب وغير القادرة على الانجاب.
أما عن الدور الأخلاقي “فعندما نرجع لتلك الإرادة التشريعية التي يُعبر عنها من خلال التوجيهات الفقهية؛ بواجبها ومستحبها، ومكروهها، وحرامها، نجدها في الأنثى تتجه أولاً وبالذات الى أدوار الأمومة والزوجية، وبناء الأسرة، وكل هذا محوره الأم الصالحة”.
ويستشهد سماحة المؤلف بزوجات النبي الأكرم؛ أمهات المؤمنين، ثم مسألة الإرضاع المختصة بها المرأة والأحكام المتعلقة بها، ثم تكريمها من قبل الرجل المُنفق عليها.
حسناً فعل الشيخ المؤلف في تسليطه الضوء على فتنة الجندرية التي أثارها الغرب عام 2022 من خلال فيلم وثائقي أميركي صادم للعالم بعنوان “ما هي المرأة”؟! وبين أنه محاولة “لتعريف الانسان، وعلى الأخص؛ المرأة، تعريفاً تكون فيه المرأة كل شيء إلا الأمومة”.
أما عن الحجة الطبيعية لأمومة المرأة “فكل ما يحتاجه المرء من ذكاءً فطرياً، وحسّاً عقلائياً ليستنبط أن المرأة خلقت إحيائياً (طبيعياً) لتكون أمّاً، فهي وعاء الجنين، وبيته الأول للتشكل والنمو، وكل شيء في جسمها؛ خارجياً وداخلياً إنما وجد بالدرجة الأولى لأداء وظائف الأمومة”.
كما يبين لنا المؤلف الحجة النفسية- الذاتية في شخصية الأنثى، وما لها “من حنين عميق، وغريزة دفينة”، وهي ليست سلوكاً ثقافياً صنعته الأيام –يضيف المؤلف- كما يحلو للاتجاهات النسوية تصوير المسألة، بل تكوين جوهري في نفس الأنثى”.
أما ما يتعلق بالحجة الاجتماعية، فان المؤلف الكريم ساق هذه الحجة لتأكيد الفروقات بين المرأة والرجل في السلوكيات وطرائق التفكير، ومنها مثلاً؛ الاهتمام بالتفاصيل، وأورد سماحته مثالاً من دراسة اكاديمية، بيد أنه لم يوجد لنا علاقة بين هذا الاهتمام والأمومة تحديداً، فربما تكون هذه الصفة لشريحة واسعة من العوانس والطالبات الجامعيات.
الجندرية وتهديد الأمومة
حسناً فعل الشيخ المؤلف في تسليطه الضوء على فتنة الجندرية التي أثارها الغرب عام 2022 من خلال فيلم وثائقي أميركي صادم للعالم بعنوان “ما هي المرأة”؟! وبين أنه محاولة “لتعريف الانسان، وعلى الأخص؛ المرأة، تعريفاً تكون فيه المرأة كل شيء إلا الأمومة”.
ورغم ما قيل عن هذه الفكرة، وردود الفعل المختلفة، فان القارئ يحتاج من المؤلف توضيح أكثر من ثلاث صفحات في هذا الكتاب عن خلفيات الموضوع، ولماذا في هذا الوقت بالذات تثار مسألة الجندرية وإلغاء ثوابت ومسلّمات النوع الجنسي للإنسان؟ وهل أن أمومة الأم مستهدفة، أم الأسرة بشكل عام؟ ثم ما الداعي لهذا الاستهداف اساساً؟
الأم والأدوار العظيمة
بعد جولة من البحث الاستدلالي عن أمومة المرأة، ينتقل سماحة الشيخ البلوشي في مؤلفه الى سرد “الأدوار العظيمة للأم الصالحة”، وندرجها للاختصار: الانجاب- سلامة الأجيال صحياً- منبع العاطفة ودفؤها- تدبير البيت، منزل انيق واجواء حيوية، وهي أدوار يرسم لنا الشيخ المؤلف لوحة جميلة تختصّ بشخصية المرأة- الأم، بينما ينتظر القارئ –وأنا منهم- لاسيما في ظل الظروف الراهنة، أن يقرأ عن الدور التربوي للأم الصالحة، وبشيء من التفصيل لنعرف –وتحديداً الأمهات- خارطة الطريق الى منهج تربوي وأسلوب تطبيق عملي ناجح ينقذنا من الأزمات الأخلاقية والنفسية القاتلة داخل الكثير من العوائل.
وفي المبحث الأخير يتطرق سماحة الشيخ المؤلف الى مسألة محورية في الحديث عن الأم الصالحة، وهي العمل على بلورة شخصية الأم الصالحة داخل الأسرة، ليس عندما تكون شابة ثم تذهب الى بيت الزوجية، وإنما تكون لدينا “ثقافة الأمومة الأصيلة”، منبهاً الى التهديدات من تشويه الفطرة الإنسانية بما يغير قناعة بعض الفتيات المتزوجات بمبدأ الأمومة ودورها في مستقبل المجتمع.
وفي هذا السياق يعد سماحة الشيخ “الأسرة هي المحطة الأولى التي تتشكل فيها القيم والمبادئ الأساسية للأمومة، حيث تتعلم الفتاة عبر الملاحظة والتقليد، فالأم تظهر نموذجاً حيّاً للعناية والرعاية، وتقدم دروساً غير مباشرة في الحب والتفاني والتضحية”.
الكتاب الذي بين أيدينا لا تجاوز الستة وتسعين صفحة فقط، بيد أنه –كما اسلفنا- غنياً بالأفكار والاضاءات، وهو بالأصل، مجموعة محاضرات ألقاها سماحة الشيخ البلوشي، ثم تم جمعها بطلب من أخوة مؤمنين، ليكون هذا الكتاب الجميل الصادر عام 2024 عن دار البصائر للطباعة والنشر، ومنتدى القرآن الكريم في الكويت، وهو متوفرٌ في مكتبة البصائر، شارع قبلة الامام الحسين، عليه السلام، في كربلاء المقدسة.