أثناء جلوسنا على مائدة الطعام مع أبنائي يوم أمس أُثير نقاش حول تعديل قانون الأحوال الشخصية، طرح أولادي الثلاثة من دون رابعهم، ثلاث اشكالات عالقة في أذهانهم من تعديل القانون، وهذه الاشكالات قد سبقتني بها إليهم وسائل التواصل الاجتماعي.
وقبل ان أطرح الاشكالات والنتائج التي توصلنا إليها معهم في نهاية النقاش، وجدت من الضرورة بمكان ان نفتح قوسين للتنويه الى ضرورة فتح النقاش مع الاولاد يوميا بمناسبة او من دون مناسبة خاصة، مع وجود الكم الهائل من وسائل الانحراف والتضليل، ففي وصية أمير المؤمنين الى ابنه الإمام الحسن، عليه السلام، المعروفة بالرسالة (31) الواردة في كتاب تُحف العقول، وهما إمامان معصومان، قد علّل، عليه السلام، سبب الوصية بما يأتي: “بادرتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ، وَ أَوْرَدْتُ خِصَالاً مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِي، أَوْ أَنْ أَنْقُصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جِسْمِي، أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَى وَفِتَنِ الدُّنْيَا”، وهذه رسالة إلينا جميعا ان نسعى الى المبادرة في نقل التجارب الى أبنائنا قبل ان يسبقنا إليهم غيرنا مستغلاً غلبات الهوى وفتن الدنيا، فـ”قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته”.
والآن بعد هذا التنويه نعود الى الاشكالات الثلاث التي أغوت بها المنظمات المعارضة لتعديل قانون الأحوال الشخصية، بعض من استمع إليها وتأثر بأفكارها البعيدة عن الحق والحقيقية:
أولا: الاشكال الأول يتعلق بتزويج القاصر ويتفرع هذا الاشكال الى محورين: محور يتعلق باشكالية عمر الزواج من (9) سنوات كون الفتاة قاصر، والمحور الثاني يتعلق باشكالية استغلال هذا النص من قبل الآباء غير الصالحين -الرجعيين حسب تعبيرهم-في تزويج بناتهم من عمر الـ(9) سنوات.
مَن قال لكم ان سن الزواج هو 9 سنوات؟! فلا أحد من مراجعنا العظام والكتب الفقهية حددت سن الزواج بـ9 سنوات بل هو الرأي المشهور في سن التكاليف بالواجبات الشرعية مثل الصلاة والصيام وغيره
والرد في هذين المحورين كان بما يتناسب وعقول الاولاد، حيث طرحت عليهم نص قانوني من قانون الأحوال الشخصية النافذ، إذ تنص المادة (18/ف1) من قانون الأحوال الشخصية الحالي على ما يلي: “اذا طلب من أكمل الخامسة عشرة من العمر الزواج فللقاضي ان يأذن به، اذا ثبت له أهليته وقابليته البدنية، بعد موافقة وليه الشرعي”، وسألتهم، اذا رأيتم فتاة بسن الـ15 سنة تتزوج ماذا تقولون، كانت إجابتهم بأنها قاصر، فأتممت معهم قائلا، وهذا النص موجود في القانون الحالي ولا أحد يعترض عليه.
وأتممت قائلا: ثم مَن قال لكم ان سن الزواج هو 9 سنوات؟! فلا أحد من مراجعنا العظام والكتب الفقهية حددت سن الزواج بـ9 سنوات بل هو الرأي المشهور في سن التكاليف بالواجبات الشرعية مثل الصلاة والصيام وغيره، وقد ذهب فيه البعض الى جعله 12 سنة، أما سن الزواج بالاضافة الى سن التكاليف ينبغي توافر شرط الرشد والقدرة الجسمانية على تحمل آثار الزواج، والرشد والقدرة الجسمانية يعود تقديرها الى من يبرم العقد من العلماء في المحاكم الشرعية، اذا ما أٌقر تعديل القانون.
ثم هل نعطي الحق للقاضي ان يزوج القاصر ذات 15 سنة ونثق به، ولا نثق بمراجعنا وعلمائنا الذين استأمناهم على ديننا في تزويج الفتيات؟!، فبهتوا مما سمعوا، وهزوا رؤوسهم مذعنين.
ناهيك عن ان الأعمار المحددة سواء في القانون او الشرع تعد أعمارا جوازية لا إلزامية، فكما لو تزوجت فتاة بعمر الـ15 في الوقت الحالي نقول بأنها قاصر، ولو تزوجت بعمر الـ18 نقول انها صغيرة إلا ان القانون أباح لها ذلك ولم يلزمها به، كذا الحال العمر الشرعي في التزويج، جوازية لا إلزامية، كأني بذلك فتحت لهم مجالا للخوض في المحور الثاني من الاشكال الأول.
فقالوا: وهذا الجواز يولد فرصة لاستغلال الآباء غير الصالحين في فرض الزواج على بناتهم من أعمار مبكرة وهنّ قاصرت.
وكان سؤالي لهم بكل بساطة، الأب غير الصالح لا ينظر لا للشرع ولا للقانون، فهو يخالف الاثنين معا، فيا ترى لو خالف القانون و زوجها غصباً عنها دون تثبيت ذلك العقد، أفضل، أم لو كان العقد مثبتا، أضمن لحقوق الفتاة؟! فقالوا حتما لو كان مثبتا، فقلت وهذا هو المُراد، فضلا عن ان الزواج بدون رضا الفتاة وجبرها من قبل أي شخص كان يحق لها نقضه وفسخه.
فقالوا ماذا عن الحضانة والنفقة؟! فالأم أولى بهما من الأب، اذ الأم أحنّ على أولادها؟! فقلت دعونا نتفق على أمر؛ ان الحضانة لا هي حق للأب ولا هي حق للأم بل هي حق للطفل، فالمحور فيها الطفل، أليس كذلك؟! قالوا: بلى.
الأمر الآخر الذي ينبغي ان نتفق عليه هو ان الأفضل للطفل ان يعيش في كنف والديه لا أحدهما، إلا ان هنالك حالة طارئة أدت الى افتراق الوالدان، فهو لو عاش مع أبيه فَقَد حنان الأم، ولو عاشت مع أمٍّ فقد عزّ الأب، وهاتان مصلحتان متضاربتان، أيهما يجب ان نقدم، وكيف يجب ان نوافق بين تلك المصلحتين.
لذا جاء الشرع ليُخرج الطفل بأقل الخسائر التي سببها له والداه في افتراقهما فجَعلَ حضانة الطفل الى عمر سنتين مع أمه لأنه يحتاجها أكثر، فيما حاجته الى أبيه بعد ذلك تكون اكثر، دون ان نغفل احتياجه الى أمه، أما الفتاة فتحتاج الى حضن أمها لفترة أطول من الولد فجُعلت حضانة الأم الى حد الـ7 سنوات.
فالامر ليس كما يروّج له البعض بأنه جور على النساء او هيمنة الرجال وإنما البحث عن مصلحة الأطفال.
أما الإشكال الثالث والأخير، فكان بخصوص الوحدة الوطنية، وهو أيسر الاشكالات، إذ أن القانون وكما يبدو من اسمه “قانون الأحوال الشخصية”، وان كان هنالك من يُشكل على هذا الاسم، فهو مرتبط بالمسائل المرتبطة بشخص الانسان لا وطنه، فهو أولى بها من غيره.
جاء الشرع ليُخرج الطفل بأقل الخسائر التي سببها له والداه في افتراقهما فجَعلَ حضانة الطفل الى عمر سنتين مع أمه لأنه يحتاجها أكثر، فيما حاجته الى أبيه بعد ذلك تكون اكثر، دون ان نغفل احتياجه الى أمه
إضافة الى ان معظم الطوائف التي تسكن العراق من غير المسلمين لهم الحق في اختيار شريعتهم لتحكمهم في أمورهم الشخصية، لانها مرتبطة بدينهم وعقيدتهم وقد تؤدي الى إحراجات كثيرة في المستقبل، إذ من المشاكل التي تعاني منها الكثير من المفرّقات قضائيا، انها مطلقة بموجب القضاء ومتزوجة بموجب الشرع فهي كالمعلقة، لاسيما الكثير منهُن لم يكن يعلمن بواجباتهن الشرعية، مما دفع بهن الى الزواج من شخص ثانٍ بعد التفريق القضائي، وانقضاء مدة العدة حسب ظنها، وبعد فترة من الزمن تعلم عِظم ما قامت به وتبعث بالاستفتاءات الى مكاتب المراجع ليجدوا لها حلا.
وفي الختام أقول: لمن يعترض على تعديل القانون، ان التعديل لا يسلب منك حرية الإلتزام بالقانون الحالي إن كان يناسبك ويناسب أفكارك، فلماذا تمنع وتحارب من يحاول ان يطبق شرع الله، وتحرّض على من يريد الإلتزام بهذا الشرع، فنص التعديل لم يقل الا العودة الى الشريعة السمحاء، وهذا التأليب والتحريض كله على كلمة شرع الله، وكأنه اختبر في العقد كشف الكثير من الشرك الخفي لدى البعض.