كان الكلام في المقال السابق عن سببين رئيسيين يدعوانا للاهتمام بالاوضاع في العالَم:
الاول: التفاعل مع الآخرين والتأثر بهم.
الثاني: تأثيرنا في الاحداث من حولنا، حيث اننا نتمنى أن نحدث أثرا فيما يجري في العالم، ونغيره، ونمده لظهورالامام المهدي، عجل الله فرجه.
هنالك جملة من الاسئلة تربتط بالامر الثاني؛ اي أننا نسعى الى التأثير في العالم ايجابيا، وان نجعله اقرب الى القيم الدينية والبصائر الالهية، والسؤال هنا: هل الاسلام ــ كدين ــ وسائر الرسالات الالهية كانت تدعو الى التقدم المادي ام لا؟
وهل كان هذا هدف للرسالات الالهية؟ أن البشر يسخر الارض ويستثمرها أكثر فأكثر؟
وهل هناك دعوة صريحة في هذا الاتجاه في النصوص الدينية؟
لا ريب أن الدين حسّن عيش الانسان؛ علمه كيفية يعيش، وكيف يمنع الظلم، وكيفية تساوي الناس في مكاسب الحياة.
⭐ لا ريب أن الدِين حسّن عيش الانسان؛ علمه كيفية يعيش، وكيف يمنع الظلم، وكيفية تساوي الناس في مكاسب الحياة
بالرغم من أن الجانب الاول (تحسين حياة الانسان في الارض) يؤثر في الحضارة؛ والدليل على ذلك انه ما إن نزلت آيات الكتاب الحكيم في الجزيرة العربية، وهي الاشد تخلفا في العالم المحيط آنذاك، حتى تقدمت ونشرت الحضارة في العالم، والادعاء بأن الحضارة الغربية وريثة الحضارة الهيلينية او اليونانية او الرومانية فهذا مجانب للحقيقة، فالمسلمون حين وصلوا الى أرقى دجات الحضارة كان اولئك يعيشون تجربة ما يسمونه العصور الوسطى (المظلمة)، والحقيقة ان الحضارة انتقلت من المسلمين الى الغرب {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
وهذا لعله دليل على ان الاسلام بكل ابعاده كسائر الرسالات الالهية تدعو الى التحوّل المادي بالاضافة الى التطور المعنوي، والمؤلف آرلوند توينبي (صاحب كتاب تاريخ الحضارات) يؤكد في كتابه: انه ما من حضارة انطلقت إلا بفكرة معنوية.
وكل ذلك لا يزال من الادلة غير الكافية بأن الاسلام دعى الى التقدم المادي، على الرغم من أنه وفّر الفرصة لهذا التقدّم، ومهد الطريق، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “اوصيكم بالآخرة فالدنيا انتم مستوصون بها”، فالانسان يندفع نحو الدنيا لكثير من الاسباب؛ شهواته، وتنافسه مع الاخرين، وحس التعالي وما اشبه، لكن بالنسبة الى الآخرة هو بحاجة الى نصيحة ليهتم بها، قال ــ تعالى ــ: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا}.
و هناك جملة من العبقات تقف حجرَ عثرةٍ امام تقدم الانسان المادي، والدِين قد رفع تلك العقبات، فالمانع الأول هو الهيبة؛ فطبيعة البشر الاول كانت خوفه من الطبيعة والخلق؛ من الاشباح والجن، ولذا نجد انهم كانوا يعبدون الطبيعة، فالبعض كان يعبد الحجر، وهناك من يعبد النيل وما اشبه، تلك الهيبة اسقطها الدِين وجعل محورَ الخشية من الله فقط، وحينما سقطت هيبة الطبيعة في نفس الانسان انطلق، وبدأ يبحث ويغيّر في الأرض.
والدِين نسف الهيبة غير المبررة في النفس الانسانية، وجعل الانسان يتعالى عليها، والله ــ تعالى ــ امر بعدم عبادة الشمس والقمر ونهى عن السجود لهما، ويكون السجود له وحده فهو خالقهما، وكذلك أمر بالتوكل عليه: { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وبسبب جهل البشر؛ لجأ البعض الى التوفيق بين افكاره واحلامه وخرفاته وبين الدِين، و انتشرت بين بعض المتدينين افكار تدعو الى الانطواء، واعتبروا كل شيء حرام، إلا ما استُثني اعتمادا على اصالة الطهارة أوالحلية وما اشبه، هذه الاصول وغيرها التي ركزها الاسلام في أذهاننا عند بعض المتدينين غير معروفة ولا تنجسم روحه مع الطبيعة، فالبعض يستقذر النعمة، والتقدم، والمال، وحتى إذا حصل على بعض الزينة يستقذره، بل هناك من يستقذر الجنس، هذا النوع من الفكر الانطوائي الانغلاقي المتخلف اوقف تقدم البشر، فلم يعرف النعمة ولم يشكرها.
والقرآن الكريم جاء لنسف الخرافات كليا {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}، ولعل سورة الانعام تدعو الى الانطلاق والاستفادة من الطيبات، وتبين مدى سخافة التحريم بغير ما أنزل الله، وحينما نزلت هذه السورة نزل معها رعيل من الملائكة وكان نزولها مرة واحدة، قال ــ تعالى ــ في هذه السورة الرائعة: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ}، وفي سورة أخرى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}.
وربما الآيات الكريمة التي نفسرها تفسيرا ولعله غير ذلك كقوله ــ تعالى ــ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} هذه الآية نفسرها باجازة الاكل والشرب، لكن لماذا لا نفسرها على نحو الأمر {وَكُلُوا} وليس أمرا في مقام الحظر، وإنما امرا ابتدائيا، لان الحرام في الآية {وَلا تُسْرِفُوا}.
⭐ الدِين نسف الهيبة غير المبررة في النفس الانسانية، وجعل الانسان يتعالى عليها
وربنا ــ سبحانه وتعالى ــ حينما يبين علاقتنا بالارض يقول: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}، وحينما يصف اللهُ نبينا الأكرم، صلى الله عليه وآله: {يضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم}، وحين قراءة هذه الآية بمجمل كلماتها الكريمة نجد أنها تبين ان النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، اعطى حرية كاملة للإنسان، واعاد له شخصيته، وكرامته.
والذين ينتمون الى الدِين ثم يحرّمون ما أحلَّ الله، نجد الشدة الكبيرة معهم من قبل الباري ــ تعالى ــ وهذا يتضح من من خلال الآيات الكريمة، وهذا إن دل إنما يدل على انها كانت مشكلة كبيرة عند الناس، ولا تزال الى الان، فملايين البشر لا يتزوجون وهم الذين ينتمون الى جانب الكهنوت في المسيحية، وعلى إثر ذلك تنتشر الاخبار حول التحرش الجنسي بالأطفال في بعض الكنائس.
ونجد في القرآن الكريم دعوة جدية الى مجموعة من المبادئ التي تسهل التقدم الحضاري، مثلا مفردة “السعي” قال ــ تعالى ــ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} وكذلك كلمة “الكدح” قال ــ سبحانه ــ: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}، وايضا “التعاون” {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، والتشاور {وامرهم شورى بينهم}، والتنافس السليم: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.
وفي القرآن الكريم آية لو تدبرناها لفتحت أمامنا آفاقا كثيرة {فاستبقوا الخيرات}، اي تنافسوا على الخيرات، والخير أعم من الصلاة والصيام، فعمارة الارض واستصلاحها، وكذلك البحث العلمي وما اشبه كلها خيرات.
والدِين الاسلامي يسد على الانسان ابواب الفساد، لان الفرد حينما يرى أمامه ابوابا مختلفة فيمكن ان يلج في احدها، ولكن إذا سُدت الابواب الشاذة الفاسدة، يُفتح أمام الانسان بابا واحدا وهو العمل الصحيح، فالاسلام ــ مثلا ــ يحرّم الربا أشد ما يكون، لان الربا عيش على جهود الآخرين، وكذلك يحرّم الرشوة، ويمنع اي نوع من التجاوز على حقوق الآخرين، وبكلمة واحدة عظيمة، قال ــ تعالى ــ: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، في علم الاقتصاد هناك نسبة مئوية من البشر يشتغلون فيما لا ينفع الناس.
والله ــ تعالى ــ في آية واضحة يقول: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، وسورة كاملة في القرآن الكريم من اجل مسألة التطفيف (سورة المطففين}، فحينما تُسد أبواب الاكل بالحرام والباطل، يتقدم المجتمع وهذا سبب من اسباب التقدم.
⭐ نجد في القرآن الكريم دعوة جدية الى مجموعة من المبادئ التي تسهل التقدم الحضاري، مثلا مفردة “السعي”
وربنا يوجه الانسان الى الطبيعة على انها مسخرة له، فهناك مرحلتان؛ اسقاط هيبة الانسان من الطبيعة أولا، وثانيا: رغبة الانسان في استثمار هذه الطبيعة، وهناك عشرات الآيات في القرآن الكريم، تبين السعي من اجل الرزق، وهذا قد يكون احد التقدم الحضاري عند البشر، ومن ابعاد التقدم ــ وهو ما اكده الاسلام ــ البحث العلمي، حينما يسقط الاسلام عن ذهن الانسان الخرافات والاساطير والتوجه الى الظنون والتي جعلها محور حركته، يدعو الاسلام ــ في قبال ذلك ــالى العلم، وهناك عشرات الآيات حول التعقّل والتفكر والبحث، والسير في الارض.
وربنا يصف المؤمنين بصفة عظيمة يقول: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي} دعوة الاسلام ومنهجه للبحث العلمي لا شك، ولهذا تجد ان الذين اخترقوا المجاهيل في التاريخ الاسلامي كانوا اولئك الاكثر تدينا والتصاقا بالقرآن الكريم، لانهم اسقطوا عن ذهنهم الخرافات واتباع الآخرين، هذه الدعوة نجدها وسيلة عظمى للتقدم الحضاري لان جزء منه التقدم العلمي.
- (مقتبس من محاضرة لسماحة المرجع المدرّسي دام ظله).