- مقدمة
الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وآله هو حديث عن الأخلاق، والقيم، والفضائل، كما أن الحديث عن تلك المنظومة الأخلاقية في الحياة الإنسانية هو حديث عن رسول الله الأكرم، صلى الله عليه وآله، بالضرورة لأنه حدَّد الهدف من بعثته الشريفة هي إكمال تلك المنظومة في الحياة البشرية حيث قال: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ اَلْأَخْلاَقِ”. (مکارم الأخلاق للطبرسي: ج۱ ص۸).
الهدف الأساسي من البعثة النبوية الخاتمة هي إكمال منظومة الأخلاق والفضائل في هذه الحياة ولعمري هي الهدف الأرقى لأن الحياة بلا قيم، ولا فضائل، ولا أخلاق، هي حياة بهيمية وحيوانية بامتياز، بل حياة الغابة والبحر المحيط تبقى أرحم بألف مرَّة من حياة الإنسان في مجتمع لا فضيلة فيه، كما نرى ونعيش في هذا العصر الرقمي الذي حوَّل كل القيم إلى مادية، وصارت قيمة الإنسان تقدَّر بالمادة، لأنهم سحقوا القيمة الأولى له وهي الإنسانية منذ أن قال ذاك الفيلسوف لديهم: (قتلنا الإنسان)، ويعني قتلنا الإنسانية فيه فتحوَّل إلى وحش شرس يقتل، ويسرق، وينهب بلا وازع ولا رادع، بل صار القتل والنَّهب وظيفة وعلماً يدرسونه ويُنشؤون شركات لذلك يسمُّونها بالشركات الأمنية كأسوأ شركة عرفتها البشرية منذ فجرها الأول (بلاك ووتر).
فالرسول الأعظم محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله، يمكن أن نسمِّيه رسول الأخلاق والفضائل والقيم الإنسانية في هذه الحياة، وهذا واضح وجلي في شخصيته الكريمة منذ أن ولد طفلاً يحبو في بيت الله الحرام وحتى صار قائداً لأكبر دولة في الجزيرة العربية، وأرقى حضارة إنسانية وقد تجاوز الستين من عمره الشريف فالدارس والمتتبع لسيرته العطرة ومسيرته المظفرة يجده أخلاقاً وفضيلة تمشي على قدمين في المجتمع.
- التواضع الصِّفة الأجلى
من تلك المنظومة النبوية والأخلاق الرِّسالية يمكن أن نقتطف من بستانها زهرة واحدة لننعم بشذاها، ونتمتع بألوانها الزاهية لنتعلَّم من صاحبها تلك القيمة الراقية، ألا وهي قيمة وفضيلة التواضع، حيث أنه ما من أحد درس حياة رسول، الله صلى الله عليه وآله، وسيرته إلا تعجَّب من تواضعه وبساطته على طول المدى وفي كل مراحل حياته المباركة، إذ أنه لم يتغيَّر في صفته أبداً منذ أن درج في صباه إلى أن كان قائد الدولة والمجتمع الإسلامي في عزه وقوته وأوج سلطته وحكومته، فكان التواضع من أجمل الصفات التي تجذب إليه الأخرين، وهذا ما قرره وأثبته القرآن الحكيم حيث قال تعالى: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ”. (سورة آل عمران: 159).
⭐ الهدف الأساسي من البعثة النبوية الخاتمة هي إكمال منظومة الأخلاق والفضائل في هذه الحياة
فلين الجانب يعني فيما يعنيه سعة الصَّدر والصبر والتواضع لهم، ولذا كانت سيرته في ذلك واضحة بحيث أنه إذا جاء أعرابي إلى مجلسه لا يعرفه وهو جالس بين أصحابه، فيسأل عنه فيُشار إليه من بينهم، فأي قائد وعظيم أنت سيدي ومولاي يا رسول الله؟ حتى طلب منه الأصحاب أن يصنعوا له دكَّة يجلس عليها ليعرفه الغريب إذا جاء إليه مسلماً أو رائداً لأهله.
- صور راقية وعِبر هادية
الدارس للسيرة النبوية يجدها مطبوعة بصفة التواضع، بل هي الصورة الأجلى في تلك اللوحة القيمية الرائعة لحياته، صلوات الله عليه وآله، كيف ذلك وهو الذي قال: “خَمْسٌ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى اَلْمَمَاتِ: اَلْأَكْلُ عَلَى اَلْحَضِيضِ مَعَ اَلْعَبِيدِ، وَرُكُوبِيَ اَلْحِمَارَ مُؤْكَفاً، وَحَلْبِيَ اَلْعَنْزَ بِيَدِي، وَلُبْسُ اَلصُّوفِ، وَاَلتَّسْلِيمُ عَلَى اَلصِّبْيَانِ لِيَكُونَ ذَلِكَ سُنَّةً مِنْ بَعْدِي”. (مکارم الأخلاق: ج۱ ص۱۱۵).
وأي صور خمس هذه التي تعتبر من أرفع صور التواضع في الحياة الإنسانية على طول المدى وفي كل عصر ومصر لا سيما في ذلك الزمن الذي كان يفعلها يُعيَّر بها إذا كان من الأشراف وعِلية القوم ولذا يروى أن امرأة رأته (صلى الله عليه وآله) يجلس على الأرض ويأكل مع العبيد فعيَّرته بذلك قَالَ أَبو عَبْدِ اَللَّهِ الصَّادِق، عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: “مَرَّتِ اِمْرَأَةٌ بَذِيَّةٌ بِرَسُولِ اَللَّهِ، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَهُوَ يَأْكُلُ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى اَلْحَضِيضِ، فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ لَتَأْكُلُ أَكْلَ اَلْعَبْدِ وَتَجْلِسُ جُلُوسَهُ؟
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اَللَّهِ، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: إِنِّي عَبْدٌ وَأَيُّ عَبْدٍ أَعْبَدُ مِنِّي؟
قَالَتْ: فَنَاوِلْنِي لُقْمَةً مِنْ طَعَامِكَ، فَنَاوَلَهَا فَقَالَتْ: لاَ وَاَللَّهِ إِلاَّ اَلَّذِي فِي فِيكَ، فَأَخْرَجَ رَسُولُ اَللَّهِ، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، اَللُّقْمَةَ مِنْ فِيهِ فَنَاوَلَهَا، فَأَكَلَتْهَا، قَالَ أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): فَمَا أَصَابَهَا بَذَاءٌ حَتَّى فَارَقَتِ اَلدُّنْيَا”. (الکافي: ج6 ص۲۷۱).
أي أخلاق وأي تواضع وأي كرم لك يا رسول الله، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، بحيث يجعل ما يُعيَّر به الرجل، فضيلة ومفخرة له في عيون الناس الآخرين، فتجبهه بأن يفعل أفعال العبيد الأرقاء، فأشار إليها إلى أنه الصورة الأرقى للعبد لله تعالى (فنشهد أن محمداً عبده ورسوله)، وهكذا كان يعلِّم الناس قولاً وعملاً وسيرة ومسيرة وحتى تلك التي طلبت منه اللُّقمة فأعطاها ولم تقبل إلا التي في فيه الشريف فأخرجها من فمه وأعطاها إياها.
وحفيده الإمام الصادق (عليه السلام) يرسم لنا صورة جميلة أخرى من صور التواضع للرسول الأعظم، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، بقوله: “مَا أَكَلَ رَسُولُ اَللَّهِ، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، مُتَّكِئاً مُنْذُ بَعَثَهُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى أَنْ قَبَضَهُ وَكَانَ يَأْكُلُ إِكْلَةَ اَلْعَبْدِ وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ اَلْعَبْدِ، قُلْتُ: وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ: تَوَاضُعاً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ”. (الکافي: ج6 ص۲۷۰)
ولذا كُتاب السِّيرة والسُّنن النبوية أكثروا من الصور التي تشير إلى تواضعه ــ روحي فداه ــ في جميع مراحل حياته، لا سيما حين صار قائداً للدولة الإسلامية، فكان يخدم الناس جميعاً بكل تواضع وأريحية حيث ذكروا: إنّه صلّى الله عليه وآله، كان في بيته في يساعد أهله؛ فيقطع لهم اللحم، ويحلب شاته، ويرقّع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويقم ويكنس البيت، ويعقل ناقته، ويعلف ناضحه، ويطحن مع الخادم قمحه، ويحمل بضاعته من السوق بنفسه، ويضع طهوره بالليل بيده دون خادمه، ويجالس الفقراء على الأرض، ويواكل المساكين بما لديهم، ويناولهم ويعطيهم بيده.
- مواقف لا تنسى
والحديث – كما تقدم مختصراً- عن بعض الصور لتواضع الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، ولكن تبقى تلك الصور التي رسمها في حروبه ومعاركه هي الصور التي لا تنسى من ذاكرة الأمة لأنها حُفرت في القلوب والعقول، فمَنْ لا يذكر الصور العجيبة لرسولنا الكريم في المسير إلى معركة بدر الكبرى حيث كان يتعاقب مع ثلاثة أو أربعة على بعير واحد؟
وأين لنا أن ننسى تلك الصور عن عمله مع أصحابه في معركة الأحزاب، لا سيما في حفر الخندق حيث قال البراء بن عازب: “ما رأيت أحداً أحسن في حلّة حمراء من رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله، فإنه كان أبيض شديد البياض، كثير الشَّعر، يضرب الشَّعر منكبيه.. ولقد رأيته يومئذ يحمل التراب على ظهره حتى حال الغبار بيني وبينه، وإني لأنظر إلى بياض بطنه”.
وقال أبو سعيد الخدري: “لكأني أنظر إلى رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، وهو يحفر في الخندق مع المسلمين، والتراب على صدره وبين عُكنه” (طيَّات لحم بطنه الشريف).
⭐ الدارس للسيرة النبوية يجدها مطبوعة بصفة التواضع، بل هي الصورة الأجلى في تلك اللوحة القيمية الرائعة لحياته، صلوات الله عليه وآله
ويلخِّصها الليثي بقوله: “كان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف، فلقد كنت أرى رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، وإنه ليضرب مرة بالمعول، ومرّة يغرف بالمسحاة التراب، ومرّة يحمل التراب في المكتل، ولقد رأيته يوماً بلغ منه (الجهد والتعب)، فجلس رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله، ثم اتّكأ على حَجر على شقّه الأيسر، فذهب به النوم”. (مغازي الواقدي).
والصورة الأرقى يرسمها أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ بقوله: كُنَّا مَعَ اَلنَّبِيِّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فِي حَفْرِ اَلْخَنْدَقِ إِذْ جَاءَتْ فَاطِمَةُ وَمَعَهَا كُسَيْرَةٌ مِنْ خُبْزٍ فَدَفَعَتْهَا إِلَى اَلنَّبِيِّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فَقَالَ اَلنَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): مَا هَذِهِ اَلْكُسَيْرَةُ؟ فَقَالَتْ: خَبَزْتُهُ قُرصاً لِلْحَسَنِ وَاَلْحُسَيْنِ جِئْتُكَ مِنْهُ بِهَذِهِ اَلْكُسَيْرَةِ، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): يَا فَاطِمَةُ أَمَا إِنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ جَوْفَ أَبِيكَ مُنْذُ ثَلاَثٍ). (بحار الأنوار: ج16 ص۲۲۵).
ولذا كان يشدُّ حجر الجوع على بطنه الشَّريف، فأين تجد مثل هذه الصور الراقية لقائد ورئيس الدولة الإسلامية، والحضارة الإنسانية؟
- الرسول الأعظم قدوتنا
ونحن ما أحوجنا – لاسيما شبابنا الأعزاء- أن يقتدوا برسول الله، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، في سيرته ومسيرته المباركة في تواضعهم وبساطتهم في عيشهم وألا يأخذهم بريق الحضارة، ولمعان الماديات فيسلب منهم عقولهم فيشمخوا بأنوفهم عالياً فيتكبروا، ويتجبروا على أهلهم، وأبناء وطنهم، وأحياناً على أنفسهم.
ولا أنسى وصية المرحوم والدي وقوله لي: إياك أن تشمخ بأنفك، وترفع رأسك، وتتكبر فعندها إعلم أن رأسك فارغاً وأنت فاضي من الخير، ويضرب لي مثلاً من أغضان شجرة الزيتون أو الخوخ في أرضنا – قبل أن يسرقها صبيان النار الأموية- فيقول: انظر إلى الغصن الفارغ كيف يشمخ عالياً، وأما الغصن الذي يحمل الثمار فكلما ازداد حملاً ازداد تواضعاً، وكذلك سنابل القمح فالمليئة تنحني تواضعاً والفارغة تشمخ عالياً.
وأنتم أيها الشباب احملوا العلوم والمعارف وتواضعوا كرسولنا الكريم لتصنعوا مجداً، وتبنوا حضارة تليدة بإذن الله تعالى، واعلموا أن التواضع هو كلمة السِّر في علوِّكم ورفعتكم عالياً.