مهما كانت قيمة الصفات الحميدة في حياة الانسان، نجد أنها تتعرض للضمور احياناً، او للتهميش احياناً اخرى، مثل الصدق والأمانة والتعاون والإحسان، وتترك مكانها للكذب والخيانة والخذلان، والسبب؛ ظروف معقدة تضرب بعواصفها العاتية الكيان الاجتماعي فتقلب الموازين رأساً على عقب، عندما يكون الغني محترماً، والقوي مؤثراً، وهذا الانقلاب أسفر عن نشوء نوع من التفسيرات الذهنية الجديدة للقيم الاخلاقية، ومنها؛ الإحسان، فهل هو مطلوب وحَسَنٌ دائماً؟ وهل هو للجميع، أم لاشخاص بعينهم؟!
-
الماضي الجميل والقيم الجميلة
ولمن يتطلع قليلاً الى “الماضي الجميل” يجد من أجمل ما فيه؛ وجود تلك القيم والفضائل في سلوك وثقافة المجتمع الذي كان افراده بالكاد يلمسون بأيديهم أعداداً من الاوراق النقدية، ولم تكن الاسواق قد اجتاحتها السلع الاستهلاكية والكماليات المتنوعة ووسائل الرفاهية والراحة، إنما كانت البساطة والعفوية حجر الزاوية في العلاقات البينية، ولذا كان صنيع المعروف أمراً بديهياً في العلاقات الاجتماعية، ومن يقع في مشكلة في بيته يهرع اليه الجيران، او من يتعرض لخسارة في السوق تتسابق اليه الأيدي بالمساعدة كما لو أنهم اخوانه يعيشون معه في بيت واحد، ولا يشعر بشيء غير طبيعي في الامر، مثل “المنّة” او “التفضّل”، كما نراه هو ايضاً يشترك في أعمال البر والإحسان الى الآخرين، وهكذا الدائرة متكاملة ومستمرة في الحركة.
وهذا لم يكن من بنات أفكار الناس، بقدر ما يعود الفضل الى التوجيه الديني بقنوات متعددة وبجهود ومساعي الخطباء والعلماء والمثقفين ممن أسهموا في تكريس الحالة القيمية في النفوس أولاً؛ ثم نشرها في السلوك الاجتماعي ثانياً.
وأجدني ملزماً باستذكار خطباء كبار لهم الفضل الكبير على ثقافة المجتمع وعصاميته في العقود الماضية، مثل؛ الشيخ هادي الكربلائي الذي يؤكد الكثير من معاصيريه على دوره التربوي الكبير من خلال الموضوعات الشيّقة والعميقة في ابعادها العقدية والاخلاقية، ومن أشهر كلماته التي تداولتها الألسن لسنوات طويلة من بعده، وهي بالعامية العراقية: “هنياله فاعل الخير”. ونفس الدور نهض به خطباء آخرون في العراق تحديداً، ومن خلفهم علماء دين وكتاب وأدباء ومثقفون كان لكل منهم دوره في تكريس هذه الثقافة في المجتمع.
هذا التوجيه يقوم على أسس متينة من معادلة منطقية وعقلية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، كان للقرآن الكريم الفضل الكبير والريادة في كشفها للبشرية: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}، بل إن الإحسان ظهر كقيمة مقدسة عندما قرنه البارئ –تعالى- بالعدل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}. بمعنى أن العدل الذي يعد حالة قانونية في الشريعة السماوية، لا يكون مستوفياً لحاجة الناس إلا أن يُقرن بالإحسان، فربما تكون شدّة العدل وقسوته سبباً في اهتزاز النسيج الاجتماعي، كما في تطبيق بعض الحدود او رد الحقوق وغيرها، فان الاسلام يوصي بالإحسان لما فيه من الرقّة والليونة التي تزيد تلاحم المجتمع وتعزز في افراده المشاعر الانسانية، ولذا نقرأ في حكم ومواعظ أمير المؤمنين، عليه السلام، “ابذل معروفك للناس كافة فإن فضيلة فعل المعروف لا يعدلها عند الله سبحانه شيء”، ومما جاء في “غُرر الحكم” أيضاً: “يُستدل على مروءة الرجل ببث المعروف و بذل الإحسان و ترك الامتنان”.
-
اختبار القوة النفسية امام عواصف الازمات
الازمات الاقتصادية والصعوبات المعيشية لها تأثيرها الكبير في طباع الناس واخلاقهم وعاداتهم، وحتى متبنياتهم، فهي تعنى بلقمة العيش، وفرصة العمل، والوارد المالي للأسرة، ليس من السهل على الكثير تجاوزها، لذا نجد عواصف الازمات الاقتصادية تترك أثرها في عديد الشعوب المأزومة في بلادنا فتغير من الاخلاق والثقافة العامة، وما بات يطلق عليه بالحياة المادية، للتفريق عن الحياة المعنوية (الاخلاقية) التي كانت سائدة في “الزمن الجميل”، و مردّ ذلك الى عوامل عدّة ربما لا يسع المجال هنا لبحثها ومناقشتها، وهي تتعلق بمستوى الوعي وغياب الجهد الثقافي والتربوي من لدن الشريحة المثقفة.
ومن الاقتصاد ولقمة العيش، نلحظ امتداد ألسن الازمة لتلتهم جوانب اخرى في الحياة، منها ميدان التعليم، وهو من السوح المقدسة في حياة الانسان، كون العلم بالاساس أمرا ايجابيا محببا الى النفوس، والجميع يهفو اليه، يبذل الغالي والنفيس ليكون في زمرة العلماء، ويحصل على ألقاب؛ دكتور، مهندس، محامي، فمن الإحجام في إسداء المعروف والاحسان في محيط الجيرة والاصدقاء والسوق، الى الإحجام عن كل هذا في محيط العلم والتعلّم في المدارس والجامعات، حتى بات من الصعب العثور على طالب او طالبة يصدق في مشاعره عندما يحصل على علامات عالية وأنه يتميز بالذكاء ومتمكن من المادة الدراسية، فنراه يخفي على اصدقائه ما هو فيه، والسبب واحد؛ حتى لا يُجبر على مساعدتهم، او ربما –حسب تفسير البعض- حتى لا يُصاب بالحسد، والغريب أن الجميع يقفون متحدين خلف شعار “اتق شر من أحسنت اليه”، عادّين انفسهم من ذوي الحكمة والحنكة بانهم يتجنبون مصدر الشر بطريقة غير مباشرة، علماً أن هذه المقولة تثقف بالدرجة الاولى على أن الاحسان ليس بالقيمة التي يستحقها الجميع!
ليس هذا وحسب؛ فمن يجد في نفسه الرغبة والقدرة على فعل المعروف والاحسان الى الآخرين بأي شكل من الاشكال، يجد نفسه امام جملة من علامات الاستفهام تصدر من افراد او جماعات معروفة بحاجتها للمساعدة، لكن ما أن يتقدم المحسن الى الامام حتى يتعرض لمواقف او ردود فعل صادرة من صور ذهنية خاطئة إزاءه، بانه ربما يكون ذا نوايا معينة، او غايات خاصة!
-
والحل؟
لا يكون سوى بالمزيد من الإحسان والمعروف في طريق التحدي لمختلف اشكال المنغّصات والتشكيكات، لان أعمال البر والاحسان ليس بالضرورة ان تأتي لاصحابها بالشكر والتقدير، بل ربما يصحبها المزيد من الطلب بالالحاحّ، وربما فيما بعد؛ بالتهجّم وكيل الاتهامات والقدح بالنوايا. فالنكران والتشكيك، كلها ردود فعل طبيعية لزمن رديء نعيشه، تسبب في لوثة فكرية وتخبط ثقافي مرير، فليس من المعقول ان نردّه برد سلبي مماثل، فنكون بذلك قد أشعلنا فتيل الحرب الكلامية داخل النسيج الاجتماعي المهزوز اساساً. إنما المطلوب رد الإساءة بالإحسان، والتشكيك بالعطاء مع إظهار حسن النوايا علّنا نصل الى تصحيح الصورة وإعادة الموازين الى حالتها الطبيعية.