تراكم الفشل في سياسات الحكومات، وما ينعكس على الحياة العامة من ضغوطات اقتصادية ومعيشية، ثم آثار نفسية تترجم على صفحة السلوك والاخلاق والعلاقات الاجتماعية، كلها وغيرها، تشكل منظومة متكاملة من وعي الحالة السلبية لدى عديد الشعوب المبتلاة بانظمة سياسية فاسدة همّها تحقيق المصالح للطبقة السياسية الحاكمة بأي ثمن، فتتكون لدى افراد هذه الشعوب صوراً ذهنية جاهزة عن الفشل المسبق لأي عمل او مشروع يعلق عليه الأمل بالتغيير، بل ونسمع هنا وهناك، بأن ما يعانيه هذا الشعب (…) لا يدانيه شعب آخر! أو “اننا آخر ما يُسعد في هذه الدنيا”!! وغيرها من من التعبيرات السلبية ذات الرؤية السوداء.
ومن الناحية النفسية، يبحث العلماء اسباباً ذاتية في وجود هذا النوع من الشعور السلبي، منها؛ ما يعود الى فقر الرصيد الاخلاقي والديني، فكلما زاد منسوب القناعة والشكر، وانتشرت قيم التعاون والتكافل والتسامح، كلما ارتفعت الشعوب فوق جراحها وتمكنت من معالجة المشاكل الازمات التي تحيط بها مهما كانت.
وبعيداً عن الجدلية القائمة في اسباب تكريس الحالة السلبية؛ بين الشعب وبين الحكومة ومؤسسات الدولة، وأيهما المسؤول؟ فان هناك عامل آخر ومؤثر في هذا السياق، وهو وسائل الاعلام التي تعد نفسها رصينة ومهنية وذات مصداقية تثق بها الجماهير، بيد أنها تتلاعب بالحقائق التي تدعيها فتظهر شيئاً وتخفي أشياء كثيرة، مثال ذلك؛ التقرير الذي أوردته “بي بي سي” مؤخراً تحت عنوان “العراق: البلد الذي يتعرض فيه الرجال للتحرش الجنسي اكثر من النساء”.
قرأت التقرير بدقّة، فوجدت العنوان لا يعبر مطلقاً عن محتوى التقرير، فهو يستند – كما أراده المحررون في “بي بي سي” بما لديهم من مهنية- الى استطلاع شمل عشر دول عربية، تبين أن ظاهرة التحرش بالرجال في العراق تبلغ 20بالمئة، بينما التحرش بالنساء 17بالمئة.
بدايةً نشر الموقع تقريراً مكتوباً تضمن تصريحات لاشخاص عدّة ممن شملهم الاستطلاع، ومنهم الناشطة المدنية في العراق؛ هناء أدور التي أيدت وجود هذه الظاهرة في العراق، ولكن بعد يوم واحد، حذف التقرير المكتوب ليستعاض به بمقطع فيديو ممنتج برسوم متحركة ومشهد لرجل شاب يتكلم عن تجربته الخاصة مع الاغتصاب، بما يعني أنها الحالة الوحيدة التي وجدتها بي بي سي، وحجتها في عدم وجود أمثلة اخرى، استحالة اعتراف الضحايا بما يتعرضون له، ولكن بالامكان زيارة المدارس والسؤال من الكادر التعليمي او من اشخاص عاديين في الشارع، بل والتوجه الى خبراء من ذوي الشأن والاختصاص من الاكاديميين ليدلوا بآرائهم بخصوص الحجم الحقيقي لهذه الظاهرة في العراق، وهل هي حقاً بحجم النسبة التي خرج بها الاستطلاع، ثم ماذا عن سائر البلاد العربية، وأين المعطيات الحاصلة من هذا الاستطلاع او الدراسة الاستقصائية، كما جاء في التقرير؟
موقع “بي بي سي”، ماركة اعلامية مسجلة في الذهنية العربية وحتى الاسلامية عن الوسيلة الاعلامية الاكثر مهنية، ولو أنها تخلّت عن الحيادية عندما كشفت عن هويتها الطائفية منذ سنوات مع الهزائم التي تكبدتها الجماعات التفكيرية في العراق على يد أبطال الحشد الشعبي ورجال العراق الغيارى، فالتزمت من جانبها بتسمية الجماعات الارهابية والتكفيرية، “بالجماعات المسلحة”، وداعش “تنظيم الدولة الاسلامية”، وراحت تتحدث عن “أقلية نسية”، و”أكثرية شيعية”، وهذه المرة تدخل في وجدان المجتمع العراقي وتسعى للعبث بمشاعر الناس وسمعتهم أمام العالم؛ فهذه المعلومة التي توصل اليها فريقها الصحفي تريدها أن تكون بالضد من الصور الحقيقية التي توصل اليها العالم، وليس على يد الصحفيين العراقيين، بأن العراق مدرسة للأبطال والبواسل الذين أبهروا العالم بدحر عناصر ارهابية غاية في الوحشية والدموية، بما عجزت عنه قوى عالمية، والعراق نفسه، مدرسة للفضائل والخصال الحميدة، مثل الكرم والتسامح والتعايش مع مختلف الجنسيات في العالم، كما سجلته عدسات المصورين خلال زيارة الامام الحسين، عليه السلام، في اربعينيته.
وكما أن الطريقة السلبية في التفكير، بحاجة الى معالجة ذاتية بتنمية الخصال الحسنة واستثارة الفطرة السليمة في النفوس، فان معالجة الرياح الصفراء القادمة عبر وسائل الاعلام الاجنبية، بحاجة ايضاً الى طريقة فنية للمعالجة من خلال تغيير لهجة الخطاب في وسائل التواصل الاجتماعي، بالبحث عن النقاط البيضاء في العراق، وما أكثرها لنشرها الى العالم، والتأكيد أن العراق، ربما يفوق الكثير من دول المنطقة، والدول الاسلامية في توثبه وتحفزه نحو التغيير اذا ما توفرت الظروف الملائمة.
من يقف خلف صناعة الصورة السلبية عن العراق؟
تراكم الفشل في سياسات الحكومات، وما ينعكس على الحياة العامة من ضغوطات اقتصادية ومعيشية، ثم آثار نفسية تترجم على صفحة السلوك والاخلاق والعلاقات الاجتماعية، كلها …